هل يُشكّل الذكاء الاصطناعي خطرا على الإبداع الإنساني؟
فاجأني ابني الأصغر عبد الله بقصة قصيرة قال لي إنّه كتبها؛ قصة جميلة توافرت فيها خصائص هذا الجنس السردي من حبكة وشخصيات ووحدة الحدث وتطوره، بل إن المغزى الذي يُوجّهها يؤكد قيمة إنسانية وتربوية مفادها، أهمية الحرية لبناء الصداقة والتعاون وتحقيق الأحلام المشتركة، أي ما يتناسب مع فترة عبد الله العمرية وذائقته وطموحه الباكر ووازعه الأخلاقي. شككتُ في أن يكون هو صاحب هذه القصة. صحيحٌ أنه سبق أن كتب قصصا كثيرة كان يُطلب منه إنجازها خارج الفصل الدراسي، ولكنها لم تكن في مثل جمال هذه القصة وحبكتها الفنية، وسلامة لغتها، إلا من بعض الهنات النحوية. أقسم لي بأنّ القصة من بنات خياله، وهو الذي اختار موضوعها وسمى شخصياتها وتتبّع أحداثها، لكنه صارحني بأنه عرض القصة على برنامج الذكاء الاصطناعي (CHAT GPT) لمساعدته على إعادة صياغتها وتجويدها وتوسيع خيالها، وحتى العبرة من القصة تدخّل فيها البرنامج وأوحى إليه بها على النحو الذي يفهمه عقله وتتلقفها مداركه الحسية الناشئة. لقد أربكتني الواقعة وأصابتني بالذهول، وأدركت أن عبد الله وأبناء جيله الذين فتحوا أعينهم على التكنولوجيا، وتربّوا في كنفها، كيف صار بإمكانهم أن يغنموا من ثمارها، ويوسعوا مداركهم على طريقها السيار الحافل بضروب المفاجآت والألغاز المذهلة، ورُبّما قادهم كل ذلك في المستقبل القريب إلى إحداث طفرات نوعية تمسُّ مجالات كثيرة من حياتهم المعاصرة، وإلى هندسة جديدة لأطر الفكر واللغة والحضارة.
لقد أمسى الذكاء الاصطناعي حديث الناس في أيّامنا، وتجد آثاره في كل مكان من القرية الصغيرة التي نحيا فيها، وحتى في مجال الأدب صار يُسمع صدى خوارزمياته بقوّة، بل إن ثمة تخوُّفا متناميا من أن يشكل خطرا على الإبداع الأدبي، بالنظر إلى طبيعة هذه الخوارزميات التي يملكها، ومن خلالها يقدر أن ينتج نصوصا أكثر تعقيدا وإبهارا.
توجّهت «القدس العربي»، إلى باحثين متخصصين في الأدب والدراموتورجيا والرقميات، بأسئلة في موضوع الذكاء الاصطناعي ومدى خطورته من عدمها على الأدب ونتاجه الروحي والرمزي: هل يمكن أن يمثل هذا الذكاء خطرا على الأدب؟ وهل في استطاعة التكنولوجيا الرقمية المذهلة أن تحلّ محل الإبداع البشري في المجال الأدبي وفي غيره؟ وفي المقابل، ألا يمكن اعتبارها نعمة، واعتبار خوارزميات الذكاء الاصطناعي فرصة سانحة لتطوير ملكة الكتابة ومساعدة ناشئة الأدب والكتّاب أنفسهم، من أجل استكشاف أفكار جديدة، والرقي بأسلوبهم وتوسيع معارفهم وحدود الأدب المرسومة؟
أسامة جاد، سماح حمدي، بدر العوني
أسامة جاد (مصر): أدب الذكاء الصناعي
لا خلاف على أن الذكاء الاصطناعي أضحى محور الحديث في العديد من المجالات، بما في ذلك الأدب. فالخوارزميات الحديثة تمتلك القدرة على إنتاج نصوص تتسم بالتعقيد والإبداع الظاهري، الأمر الذي يثير تساؤلات حول تأثير هذه التكنولوجيا على الإبداع الأدبي، هل يمكن أن يمثل الذكاء الاصطناعي تهديدا للأدب الإنساني؟ أم أنه أداة يمكن استخدامها لتطوير قدرات الكتّاب وتوسيع آفاق الكتابة؟ والحقيقة إنني انشغلت، لبعض الوقت، بأثر الذكاء الصناعي في سؤال الأصالة، وتأثيره في قيمة الإبداع البشري، إذ يمكنه توليد القصائد والروايات وحتى الحبكات المعقدة بسرعة تفوق قدرة الإنسان. هذه القدرات تثير تساؤلات عميقة حول أصالة النصوص المنتجة وأهميتها. فالإبداع الأدبي (التقليدي) ينبع من تجربة الكاتب الفردية، ومشاعره، وخبراته الحياتية، بينما تعتمد الخوارزميات على تحليل الأنماط وتكرارها. غير أنني وجدت، في الوقت نفسه، أن الذكاء الاصطناعي، بما يشكله من تحدٍّ للإبداع البشري، يشكل فرصة أيضا، أو حالة تغير ثورية، سبق أن مرّ الإنسان بها في أكثر من عصر، وكانت وسيلته إلى ابتكار وسائل وأساليب ووسائط وأنواع أدبية وفنية وجمالية مبتكرة.
صحيح أن نصوص الذكاء الاصطناعي قد تبدو فاقدة للعمق الإنساني الذي يميز الأدب الحقيقي، فإنني لا أستبعد أن يتغير الأمر في غضون شهور قليلة (لا سنوات) لكي يبدو «أدب الذكاء الصناعي» أصيلا هو الآخر، وإنسانيا، وعميقا، على مستوى فني وجمالي. غير أننا يجب ألا ننسى، ونحن نتحوط مما هو مقبل بالضرورة، أن الذكاء الصناعي يختلف بقدر جذري عن الذكاء العاطفي، وهو ذلك الذكاء المنتج دائما للجديد وغير المتوقع والمناقض للمنطق في كثير من الأحيان، والجميل، في الوقت ذاته، الذي لا يخضع للمنطق، وإنما يخضع المنطق له.
هذا هو حال الفن، على أنواعه وتداخلاته ومسافاته البينية وتحوّراته المستمرة التي سوف تجعل هذا الذكاء الصناعي، في النهاية، مجرد أداة من أدواته، أداة تشبه، إلى حد كبير، قدرات برامج معالجة النصوص في إتاحة فعل «النسخ» لكل البشر، بعد أن كانت مهنة النسخ – منذ قرون قليلة – قصرا على النساخ والكتبة، بما امتلكوه من سلطات انحصرت الآن في حقل جمالي هو الحروفية وفنون الخط، فيما ظل الإبداع قادرا على ابتكار أشكال أكثر جدة، وأكثر أصالة، وأكثر إنسانية في مقابل الآلية المفرطة للآلة.
سماح حمدي (تونس): خوارزميّات بلا روح
إنّ هذا عصرُ ثورة رقميّة بامتياز، نعيش منذ سنوات على إيقاعه، وهي ثورة لا شكّ في أنّها يسّرتْ على الناس حياتهم، واستفاد منها الباحثون في شتّى مجالات المعرفة إذ قرّبت منهم المعلومة، بل أغرقتهم فيها بكثرة ما توفره المواقع. ولم يكن الأدب بعيدا عن هذه الاستفادة إذ نهل من معين التكنولوجيا، وأصبحنا منذ مطلع القرن نتحدّث عن أدب رقمي عالمي وعربي أُنشئت له منظّمة عالمية ودراسات نقدية، تتلمّس الطريق لتضع له أسسا ومعايير. ولكن ما حدث أنّ البعض استسهل طريق الأدب شعرا ونثرا، فجعل من وسائل التواصل الاجتماعيّ وسيلة ينشر فيها نصوصا، الكثير منها مستنسخ أو مترجَم ترجمة آلية تفتقد الجماليّة، وما تكون به أدبا. ومع تطوّر الذكاء الاصطناعيّ أضحى البعض يخشى على الأدب، إذ يرون أنّ الخوارزميات يمكن أن تنشئ نصوصا إبداعيّة قد تلغي الحاجة إلى الأديب، أو قد تجعل المتطفّلين على عالم الأدب يستعملونها لإنشاء نصوص، لم يبذلوا جهدا في نسجها.
والواقع أنّي أرى أنه لا خوف على الأدب من هذه الخوارزميّات، لأنّي أشبه النص الذي تُنشئه إحدى التطبيقات بالروبوت الذي نجده في فندق، أو في مستشفى متطوّر؛ فهو يمكن أن يؤدّي الخدمة، نعم، ولكنّه يفتقد الروح التي من خلالها يتحقّق التواصل بين البشر. والأدب كما هو معلوم يقوم بالأساس على التفاعل بين الأديب وجمهوره من المتذوّقين والنقاد، لا يسير في اتجاه واحد وإنّما في حركة دائريّة فيها الفعل وردّ الفعل، و»الأديب» المصنوع غير الأديب المطبوع، سيسقط قناع الخوارزمية في أوّل لقاء بالناس، وفي أول محاورة صحافيّة يجريها معه إعلاميّ في مجال تخصّصه الذي وضعت له الخوارزميّة نصَّه. ومن جهة ثانية، فالأدب يحمل بالضرورة ملامح هويّة الأديب وبذور انتمائه الثقافي والسياسي والأيديولوجي والمشاغل التي تسكنه، ويعبّر بشكل كبير عن خصائص المجموعة التي ينتمي إليها الأديب، إنه يحمل بصمة تميّزه عن غيره من النصوص، ولا أحسب أنّ الخوارزميّات يمكن أن تلِج هذه العوالم الخفيّة وأن تلبس الروح التي للإنسان. أظنّ أنّ النصّ الذي تنتجه خوارزميّة سيكون – مهما بلغ مستوى تعقيده و»أدبيّته»- باهتا بلا روح، منفصلا عن ذات الأديب، الذي تجرّأ على تقديم ما لم ينتجه شخصيّا إلى العالم. إنّي متفائلة، لا أخشى على الأدب من اجتياح الخوارزميات لمجاله؛ لأنّي أعتقد جازمة أنّ عالم الأدب بشكل خاصّ، والفنون بشكل عام، صامد لا يمكن أن تخترقه تطبيقات جاهزة معلّبة، حتّى إن ظهرت نصوص تصنعها الآلة فإنّها لن تدوم ولن توفّق في فرض وجودها.
وفي المقابل، ولحسن استعمال التعامل مع الخوارزميّات، فيمكن للموهوبين اليافعين الاستفادة مما تنتجه لهم، إذ يمكن أن يكتسبوا منها أفكارا وأن تفتح لهم آفاقا ذهنيّة يمكن أن تنمّي قرائحهم على ألا يتمّ نسب النصوص إليهم ونشرها في الفضاء العام.
بدر العوني (المغرب): شراكة ثنائية
نستطيع أن نقول، بنوع من الثقة، إن الجديد بقدر ما يثير الدهشة، فهو يُربك. ومن هذا الإرباك تنثال الأسئلة، فيتربع القلق على عروش العقول. بهذه الصورة يبدو الوضع ونحن نتابع ونعيش الحراك المذهل الذي أفرزته الثورة الرابعة ومولوداتها التي لا تحصى، بما فيها تطبيقات الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء وغير ذلك من مفرزات العصر الرقمي. فقد صعدت أدوات برامجها الإنسان فزرع فيها مقدرات أقرب إلى السحر؛ فما تستطيعه أدوات الذكاء الاصطناعي عبر برمجياتها فاق كل التصورات والتخيّلات، ولنا في تطبيق (CHAT GPT) وغيره من التطبيقات بنسخها وتعديلاتها التي لا يمكن التنبؤ بمساراتها وحدودها، شواهد حية على ممكنات ثورية في معالجة المعلومات وتوليد النصوص والدراسات استنادا إلى خلفية عظيمة من البيانات والمعارف.
وإذن، فإن المثقف والأديب والباحث أضحوا أمام وضع جديد مستفز، وإيقاع يصل حدود الرعب، خاصة أن هذا الوضع يكاد يوحي بتحقق بعض النبوءات التي طفت قبل عقود، بموت الأدب وسيره نحو حتفه. لكننا مطمئنون إزاء هذا الوضع، فنحن نعرف أن الأدب بطبيعته الرمزية ومضايقه الخلاّقة وعمقه التوليدي يستطيع أن يخلق لنفسه حضورا في مختلف المشاهد والتوليفات، مهما بلغت تعقيداتها، فهو بأدواته المرنة وأرضيته الحية، استطاع الدخول في زواج مقبول وضروري مع التكنولوجيا – وهذا وجه مشرق للثورة التكنولوجية – بما جعل الباحثين يتحدثون بمسؤولية عن تعاونٍ بين المبدع والمُبرمِج، بل ومن الأدباء من دخل في شراكات وثنائيات مثمرة مع الذكاء الاصطناعي، سواء تعلق الأمر بإنتاج نصوص جمالية أو دراسات نقدية، لا يمكن إنكار قيمتها، مثلما نجد عند بعض المجموعات الأدبية الافتراضية، التي وجهت تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى إنتاج/ إبداع دواوين خالصة!
إن القول بتهديد الذكاء الاصطناعي للإنسان ولسلطته الكلاسيكية في الإبداع الأدبي والجمالي، قول له مسوغاته، لكنه ليس دقيقا؛ لأن فرضية إلغاء دور الإنسان هي فرضية مردودة، فهو الصانع لهذه البرمجيات، ودقة ما تقوم به ترجع إلى هندسة بشرية، ويحتاج العمل إلى لمسة ودقة الإنسان، خاصة الإنسان الفطن إلى أهمية أخلاقيات البحث والكتابة عبر الوسيط الرقمي؛ فعبر هذه الأخلاقيات تأخذ الأدوات معانيها وفعاليتها. إن سطوة الذكاء الاصطناعي تفرض، بقوة الأشياء، أن يتحلى المثقف برؤية جديدة للحياة والإبداع والكتابة؛ رؤية تتراجع فيها الأدوات التقليدية لصالح أدوات وليدة تجوّد وتقلص زمن الإنجاز، ما ينبئ بتراجع سلطة المبدع؛ فلن يعود ذلك القديس الذي تحاط طقوسه بالغموض والسرية، بل إن (شيطانه) اليوم مكشوف: تطبيقات الذكاء الاصطناعي بما هي أداة مساعدة ومرافقة، توحي للأديب بإشراقات وتقرب له المشاهد، كما تحتفظ بمذكراته وخربشاته، وقد تلهمه عبر ملاحظات نقدية نافذة تسعف في تطوير الموضوع وإعادة بنائه، لكون العمل الأدبي بحاجة مستمرة إلى المراجعة. وقد أثبت الذكاء الاصطناعي في كثير من التجارب أنه الصاحب الذي لا يبخل بإبداء الملاحظات وتقديم النصائح وتيسير العقبات أثناء الكتابة. وليس الخوف من دوره في الحياة الثقافية عامة، سوى تعبير عن قصور في الإدراك – والإنسان عدو ما يجهل- فالذي يستطيع بمرونة أن يوظف الذكاء الاصطناعي، سينجح في تطويعه لخدمة النص، خاصة في حالة النشر الرقمي حين يصبح تشكيل الروابط وإدماج الصور والخلفيات الصوتية أمرا يسيرا، وهذه – في تقديرنا- مضافات شديدة الأهمية في الإخراج الجديد للكتابة.
عبداللطيف الوراري