الأردن في زمن التَّحوّل: بين تحدِّيات الحاضر وآفاق المُستقبل”

“
بقلم: منصور البواريد
في اللحظات الحرجة التي تعصف بالشرق الأوسط، يقف الأردن على مفترق طرق دقيق، تُحيط به الأزمات من كُلِّ جانبٍ وتضغط عليه الأعباء من الدَّاخل والخارج. ليستْ هذهِ المرة الأولى التي يجد فيها الأردن نفسه في قلب العاصفة، لكنَّ تعقيدات المشهد اليوم تحمل طابعًا مختلفًا وأكثر خطورة، حيث تتشابك التحولات الإقليمية مع أزمات الداخل في معادلة شديدة الحساسية. رؤية جلالة الملك عبد الله الثاني -حفظه الله ورعاه- كانت دائمًا تتسم بالحكمة والواقعية في التفاعل مع هذه التحديات، حيث أكّد جلالته مرارًا أن التحديث والإصلاح ليسا خيارًا بل ضرورة ملحّة لضمان الاستقرار وتعزيز القدرة على مواجهة التهديدات الاقتصادية والسياسية.
إنَّ أغلب المؤشِّرات تُشير بوضوح إلى أنَّ الأزمات البنيويَّة التي يُعاني منها الاقتصاد الأردني — والمقصود هنا التَّحدَّيات الهيكليَّة المتجذِّرة في طبيعة الاقتصاد القائم على المساعدات، وضعف الإنتاج، وارتفاع المديونيَّة — coupled with external pressures الناجمة عن انفجارات المنطقة وتبدُّل التحالفات، ستبقى قائمة، بل مرشَّحة للتفاقم، ما لم تتم مواجهتها بخطة إصلاحيّة شاملة تتجاوز المسكنات الظرفيّة.
فإنَّ المديونية المرتفعة، مع عجز الميزانية المُتزايد، يُعيقان أيَّ مسارٍ نحو الإصلاح الحقيقيّ، ولعلَّ أعمق الأزمات الاقتصادية التي يواجهها الأردن تكمن في ضعف الإنتاج المحليّ، الذي يُعاني من قلَّة التنوع والتخصُّص، كما أنَّ الاعتماد المفرط على الاستيراد يفاقم من العجز التجاريِّ ويضع ضغوطًا هائلة على العُملة الوطنيَّة، ممّا يُؤثّر بشكل مباشر على القدرة الشرائيَّة للمواطن، فهذا الاقتصاد يحتاج إلى حلول جذريَّة تتجاوز مجرّد السياسات التقليديَّة؛ فهو بحاجة إلى تحوّل شامل في سياسات الإنتاج والاستثمار، وإلى خطة طموحة لخلق بيئة تنافسيَّة تدعم الابتكار وتستقطب الاستثمارات الأجنبيَّة والمحليَّة.
في هذا السياق، تأتي الحاجة الملحّة لإصلاحات اقتصاديّة جذريّة تُمكّن الأردن من الخروج من هذه الحلقة المفرغة، وتحقيق النمو المستدام الذي ينعكس إيجابيًّا على حياة المواطن الأردني. الاقتصاد الأردني بحاجة إلى استراتيجية جديدة تعتمد على التنوع الاقتصاديّ، ورفع مستوى الإنتاجيّة، والابتعاد عن دائرة الاعتماد على المساعدات، إلى تحقيق الاكتفاء الذاتيّ والقدرة على المنافسة في الأسواق العالميّة.
فإنَّ الأزمة في جوهرها ليستْ أزمة نقصٍ في الموارد فقط، بل أزمة رؤية وإرادة، فالحلول الآنية التي اعتادتها الحكومات لم تعد مُجدية أمام مشهد تتشابك فيه الأزمات الاقتصادية مع اهتزاز ثقة الشارع، واحتدام الصراع من حولنا، فلا يُمكن للأردن أنْ يبني استقرارًا طويل الأمد على قاعدة من البطالة المُرتفعة، وتراجُع مستويات الدخل، واتِّساع فجوة العدالة الاجتماعيَّة.
وفي ظلِّ هذهِ التَّحدِّيات، يبقى السؤال المركزي: كيف يُمكن للأردن أنْ يُحافظ على استقراره؟
الإجابة، بكلِّ بساطة وواقعيَّة، تكمن في معادلة توازن دقيقة لا تقف عند حدود الأمن وضبط الشارع، بل تتطلَّب انفتاحًا واعيًا على مطالب الناس، وإصلاحًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا جذريًّا يمسُّ جوهر المشكلة لا قشورها، فالمطلوب اليوم ليسَ إدارة الأزمة، بل تفكيك أسبابها البنيويَّة، من خلال:
١-تنمية حقيقية لاقتصاد الإنتاج، وليس اقتصاد الاستهلاك والمساعدات.
٢-إصلاح بيئة الاستثمار، وتقديم فرص حقيقية للشباب بدلًا من تعويمهم في دائرة التوظيف الحكومي الهشّ.
٣-إعادة النظر في السياسات الضريبيّة التي أثقلت كاهل المواطن، دون أن تعالج جذور العجز المالي.
٤-تعزيز مبدأ الشفافية والمساءلة، وترسيخ ثقة المواطن بمؤسسات الدولة.
على الصعيد السياسي، لا بُدَّ أنْ يُحسن الأردن الخطوات والمُضِي بين الألغام الإقليمية، كما اعتاد أنْ يفعل تاريخيًّا، دون أنْ ينخرط في محاور قد تفرض عليه أثمانًا باهظة، ودون أنْ يسمح لضغوط الخارج بأنْ تُربك استقراره الدَّاخلي. إنَّها لحظة تتطلب من عمَّان أنْ تُعيد التموضُع بذكاء، مُحافظة على استقلال قرارها، وصوتها المُعتدل، ودورها التاريخي كوسيط عاقل وسط الجنون الإقليمي.
وفي هذا السِّياق، تأتي رؤية جلالة الملك عبد الله الثاني لتعكس حاجة الأردن الماسة إلى إصلاحات مستمرَّة، لا تنحصر في تغيير الوجوه السياسية بل تمتد لتشمل البُنية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة ككل. فلقد أكَّد جلالته -حفظه الله ورعاه- على ضرورة التَّحديث المستمرّ الَّذي يتوافق مع متطلبات العصر، وتوفير بيئة اقتصاديَّة مُحفِّزة على الابتكار والنموّ، مع التركيز على دعم القطاعات الحيويّة التي تُساهم في رفع مستوى معيشة المواطن.
وإلى جانب هذهِ الإصلاحات، لا يمكن للأردن أنْ يواجه وحده التَّحدَّيات الإقليميَّة التي تحدق به، فإنَّ المشهد الإقليمي الراهن يُبرز الحاجة الملحة إلى رؤية عربية شاملة وجماعيَّة، رؤية تتجاوز ردود الفعل اللحظيّة وتنتقل إلى التفكير الاستراتيجي؛ رؤية قادرة على بناء جبهة سياسيَّة واقتصاديَّة موحَّدة تواجه التدخلات الخارجيّة، وتضع حدًا لمسلسل الفوضى الذي ينهش جسد الشرق الأوسط مُنذ أكثر من عقد.
ولعلَّ الأردن، بحكم موقعه الجغرافي والسياسي، وخبرته التاريخيَّة في إدارة الأزمات، يستطيع أنْ يكون جزءًا أساسيًّا من هذا المشروع الجامع، لا مجرَّد متلقٍ لنتائج الصراعات، فدوره ليسَ أنْ يُجرف مع التيار، بل أنْ يُعيد رسم جزء من خارطة الاستقرار العربي، عبر نموذج إصلاحي مُتَّزن، وشراكة مع شعوبه وجيرانه، تقود إلى مستقبل أكثر أمانًا وعدلًا وازدهارًا.