في زوايا الصمت: الأردنيون في مواجهة غياب الثقة والمستقبل المجهول

{clean_title}
الشريط الإخباري :  

بقلم: منصور البواريد 

 

حين يتبادل الأردنيون الحديث، لا يحتاجون إلى كثير من الكلمات، تكفي نظرة أو تنهيدة واحدة لتقول: "احنا مش واثقين بحكومة أو بمجلس نواب." تلك العبارة المختصرة تُلخّص أزمةً وطنية تتعمّق عامًا بعد عام: فجوة الثقة المتسعة بين المواطن من جهة، والحكومة ومجلس النواب من جهة أخرى.

لم تعد هذه الفجوة مجرّد شعور عابر، بل باتت قناعة راسخة تشهد عليها تفاصيل الحياة اليومية: غلاء مستمر، بطالة تتضخّم، قوانين تمر بلا نقاش، ونواب لا يُسمع لهم صوت إلا نادرًا. الأردني اليوم يشعر بأنَّه خارج المعادلة، وأن أحدًا لا يمثّله فعليًا، ولا يدافع عنه بصدق.

النواب: ممثلون أم غائبون؟

من المفترض أن يكون مجلس النواب سلطة رقابية وتشريعية تعبّر عن الناس؛ لكنه في نظر الشارع فقد تلك الصفة تدريجيًا، وتحول في كثير من الأحيان إلى "غرفة تمرير" لا موقف، و"مسرح مجاملات" لا محاسبة. المواطن يرى مشاريعه وهمومه غائبة عن الجلسات، ويشاهد أداءً باهتًا لا يرقى إلى حجم الأزمة التي يعيشها البلد.

لماذا يُصوّت النواب على قوانين لا تحظى بقبول شعبي؟ لماذا يغيب الصوت الجريء والموقف الصادق؟ أسئلة يطرحها الشارع بعد كل جلسة تمرّ دون أثر ملموس.

 

أما على صعيد الحكومات المتعاقبة، فإنَّ الإشكال لا يكمن فقط في السياسات، بل في اللغة المستخدمة أيضًا. الأردنيون لا يريدون خطابات تقليدية، بل يريدون من يفهم وجعهم، يعترف بحجم الأزمة، ويخاطبهم بصدق دون تجميل ولا تبرير.

قرارات مفاجئة، ضرائب جديدة، خدمات لا تتطور والتي تتطور تكون هذهِ الخدمات قديمة وتنفيذها على أرض الواقع بطيء، وشعور متزايد بأنَّ الحكومات تعمل في وادٍ، بينما المواطنون يصرخون في وادٍ آخر. الأسوأ من ذلك أنَّ الأخطاء تتكرر، ولا أحد يعتذر أو يتحمّل المسؤولية.

 

ولكن، السؤال الذي يجب أنْ يُقال بمرارة: كيف ينجحون؟

ينجحون لأنَّهم أدركوا موطن الضعف، وعرفوا كيف يعزفون على وتر الحاجة، فحين يُنهك الفقر الكرامة، تُصبح الوعود الرخيصة سلعة مُغرية.

وما يزيد الطين بلّة، أنَّ كثيرين لا يعرفون الدور الحقيقي للنائب، لا يدركون أنَّ مهمته ليست توزيع الطرود، ولا التدخل في معاملات الأفراد، بل أنْ يكون مشرّعًا ورقيبًا، مسؤولًا عن مراقبة أداء الحكومة وسنّ القوانين التي تصون حق المواطن.

فغياب الوعي السياسي والثقافي جعل من الصوت الانتخابي أداةً للبيع، لا وسيلة للتغيير، فغابت المحاسبة، وامتلأ المجلس بمن لا يملكون مشروعًا، ولا موقفًا، ولا فهمًا حقيقيًا للدور النيابي.

الكرامة المعيشية مطلب الناس الأهم، فحين يقف ربّ الأسرة عاجزًا عن تأمين دواء لابنه أو قسط مدرسة، تصبح الشعارات الكبيرة بلا معنى. الأردني لا يبحث عن امتيازات، بل عن كرامة يومية، عن عمل، عن تعليم محترم، عن أمل لا يتبخر عند أول أزمة.

من يراقب الشارع يدرك أنَّ حالة السخط لم تعد موسمية أو عاطفية، بل نتيجة تراكمات طويلة لوعود لم تُنفذ، وممارسات عمّقت الشعور بالتهميش.

فجوة قابلة للردم؛ ولكن هذه الفجوة، ورغم اتساعها، ليست مستحيلة الردم، لكنها تحتاج إلى قرارات شجاعة، وإرادة سياسية صادقة، تعيد ترتيب الأولويات، وتضع المواطن في قلب المعادلة لا على هامشها.

استعادة الثقة: خريطة طريق نحو التغيير

إصلاح سياسي حقيقي:

يبدأ بإعادة النظر في قانون الانتخاب لضمان تمثيل عادل وفاعل لكل فئات المجتمع، ويشمل تفعيل دور الأحزاب السياسية بشكل أقوى، وإعادة توزيع الصلاحيات بين السلطات لضمان توازن حقيقي.

تمكين الرقابة الشعبية:

عبر تفعيل أدوات مثل العرائض، المجالس المحلية، والبث المباشر للجلسات البرلمانية، مع ضمان حق المواطن في الاطلاع والمساءلة.

دور فاعل للمجتمع المدني:

لا بد من إعادة الاعتبار للمنظمات غير الحكومية والنقابات باعتبارها منصات تمثيلية حقيقية، ومنحها هامشًا واسعًا للتأثير والضغط والتغيير.

إصلاح التعليم:

المطلوب هو تعليم يعزز المواطنة والوعي الحقوقي، وينتج أجيالًا ناقدة ومشاركة، لا مجرد حافظين للمعلومة. إصلاح التعليم هو استثمار في الثقة طويلة الأمد.

 

 من يعيد بناء الجسور؟

الثقة تُبنى بالفعل، لا بالوعود. والشعب الأردني، رغم الضغوط، لا يزال على استعداد للوقوف خلف الدولة إذا شعر أنَّ هناك من يقف إلى جانبه. ما يطلبه بسيط: أنْ يُسمع صوته، أنْ تُصان كرامته، وأنْ يُعامَل كمواطن لا كرقم في صندوق اقتراع.

الكرة اليوم في ملعب أصحاب القرار: إما استعادة ما تبقى من الثقة، أو مزيد من الغضب الصامت... والغضب الصامت هو الأخطر.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences