سميل العراقية… مدينة المخطوطات السريانية
سميل مدينة عراقية، تبعد عن مركز محافظة دهوك 15 كم، وتقع في المنطقة الشرقية من السهل المعروف بسهل السليفاني أو دوبان، المحصور بين دهوك شرقا وفيشخابور غربًا، والجبل الأبيض شمالًا ونهر دجلة جنوبًا. ويُحدها من الشمال مدينة دركر عجم على بُعد 37 كم، ومن الجنوب محافظة الموصل على بُعد 55 كم، ومن الشرق مدينة الشيخان على بُعد 24 كم، ومن الغرب مدينة تلعفر على بُعد 32 كم. وتمثل سميل إداريا مركز قضاء تابع لمحافظة دهوك في إقليم كردستان العراق، حيث أنشأت المدينة وسط أراضٍ سهلية خصبة، وتقع على الطريق الدولي المؤدي إلى زاخو. يصفها الموقع الإلكتروني الخاص بمدن كردستان العراق بأنها لا تشبه غيرها من المدن، بل تتجمع فيها صفات كل المدن، فهي جبلية بين مدن الجبال، وصحراوية مثل غيرها من مدن البوادي والسهول، وساحلية كما هي بقية المدن التي تقع على شواطئ الأنهار. ولكنها تبقى بشكلها وموقعها تلك المتفردة، المحتفظة بخصائص تميزها عن غيرها من المدن حيث ما تزال تجمع بصفاتها بين القرية والمدينة.
إداريا غادرت سميل لقب القرية عام 1954 عندما أصبحت مركز ناحية، وبات من حقها أن تنعم بحقوق التسمية، وأن تمتلك ما لا تمتلكه القرية من صفات مدنية بما تحويه من دوائر خدمات البلدية والماء والمجاري والكهرباء والاتصالات والبريد والنفوس والتسجيل العقاري وغيرها. وكذلك كان الحال عندما ارتقت إداريا إلى مركزٍ للقضاء عام 1978، حيث امتدت رقعتها لأكثر من 680 ألف دونم باتجاه مدينة دهوك من الشمال الشرقي، وسنجار من الجنوب والغرب، والشيخان من الشرق. وارتبطت بها ناحيتان هما باتيل في الشمال الغربي، وفايدة في الجنوب الشرقي، مع 18 مجمعا سكنيا، و40 قرية تتوزع على خريطتها الواسعة الممتدة من أطراف زاخو الجنوبية إلى بحيرة سد الموصل بمحاذاة الخط الدولي الذي يربط العراق بتركيا، فيما تتوغل في العمق غربا حتى منطقة فيشخابور حيث يتشكل المثلث العراقي السوري التركي.
وتتوزع على رقعتها الجغرافية 115 ألف نسمة يشكلون مجموع سكان القضاء ويتوزعون بين 16 ألف عائلة تعيش في سميل وبقية المدن والقصبات والمجمعات السكنية والقرى، حيث يتكون نسيجها المترابط اجتماعيا من المسلمين الكرد والعرب والمسيحيين والإيزيديين ويتمتع الجميع بحقوق متساوية أمام القانون. ونشأت بين أطيافها رابطة الأخوة، فهم يتزاورون في الأفراح والمناسبات ويتحملون هموم بعضهم البعض في الشدائد والمحن ويتكاتفون في الملمات ويتعاضدون في العمل.
الاسم والتاريخ
ذكر ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان» ط صادر، الجزء الثالث ص 255، مدينة سميل بلفظها القديم (سمويل) فيقول هي: «سمويل بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر الواو ثم ياء مثناة من تحت وآخره لام. وهي موضع كثير الطير، وقال ابو منصور: سمويل اسم طائر. بينما يعتقد بعض الباحثين أن أصل الاسم سرياني وهي تحريف لكلمة سمّالا السريانية بمعنى اليسار (شمال) وهناك من يرى أن أصل التسمية تعود إلى لفظة (شمع إيل) أي «أسمع يا رب». وهناك من يرجع الاسم إلى جذرٍ من اللغة الكردية، فتتكون التسمية من مقطعين (سي) بمعنى ثلاث و (مل) الرابية أي الروابي الثلاث. وهنالك رأي آخر يقول إن التسمية جاءت من الكلمتين الكرديتين (سي) أي ثلاث و (مال) بمعنى البيت فتكون (البيوت الثلاثة).
لا يعرف بالضبط تاريخ بناء قرية سميل، إلا أنها كانت تقع في منطقة إستراتيجية في ممر ضيق بين جبلين، الأمر الذي دعا الأكديين إلى استيطانها. وأصبحت قرية مسيحية منذ القرن الثاني للميلاد، ومن ثم تحولت إلى المذهب النسطوري. واشتهرت البلدة بوجود عدة مخطوطات سريانية تاريخية منسوخة بها. ويذكر الشماس جميل برنادوس اسكندر هومي في مقال عنها؛ أن «مدينة سميل كانت من القرى المهمة استراتيجيا إذ كانت تمر بها الجيوش سالكة مضيق قشه فر الذي يتصل بممر دركل الشيخ، حيث يؤدي هذا الممر إلى دولة آرارتو ومنها إلى بلاد الحثيين في آسيا الصغرى وأرمينيا. ويمر الطريق الملكي القديم عبر سميل والعاصي حتى نصيبين فتُربط بلاد آشور وبابل وأعالي بلاد ما بين النهرين ببلاد الروم. وهو الطريق الذي سلكه الأكديون للأغراض التجارية وللوصول إلى تجمعاتهم العسكرية، والذي أصبح بعد ذلك طريقا ملكيا شهيرًا».
إذن كانت سميل منذ القرن الثاني لميلاد السيد المسيح قرية مسيحية صغيرة مهملة لم يرد ذكرها في المصادر التاريخية، وأن أول ذكر لها جاء في حادثة الاصطدام الذي جرى بين قوات الأخوين بهرام باشا وسعيد بك قربها والذي انتصرت فيه قوات بهرام باشا أمير العمادية. كما جاء ذكر سميل التي شهدت مقتل عبد الباقي باشا الجليلي، والي الموصل الذي أصدر فرمان إبادة بحق الإيزيديين عام 1786. وتم تنفيذ هذا الفرمان على إيزيديي سنجار بشكل عام وعلى عشيرة الدنا بشكل خاص. فعندما شن الوالي المذكور حملة ضد عشيرة الدنا وهي من عشائر الإيزيديين الرئيسية في مدينة الشيخان، تم تدمير القرى الإيزيدية تدميرا كاملا واحدة تلوى الأخرى. وبينما كان جنود الوالي منشغلين بالسلب والنهب لبيوت وممتلكات الإيزيديين، اغتنم زعيم الدنا نمر سمو فرصة بقاء الوالي مع قلة من مرافقيه في المواقع قرب سميل ففاجئهم بفرسانه وقتلوا الوالي عبد الباقي باشا الجليلي وبعض أقاربه، فهرب جيش الوالي عائدا إلى الموصل.
بقيت سميل قرية مسيحية إلى حوالي سنة 1800عندما استطاع عبدي أغا الدنادني الشيخ القبلي الإيزيدي الذي قويت شوكته في المنطقة من مضايقة مسيحيي سميل ما حدى بهم إلى ترك القرية والهجرة إلى قرى شيزي وألقوش ومعلثايا وتل أسقف وغيرها. ولم تهنأ العوائل الإيزيدية في سميل كثيرا، إذ تمت مهاجمتهم من قبل والي راوندوز العتيد محمد باشا الأعور حوالي سنة 1832، وطلبت بعد ذلك عائلتان عربيتان جاءتا من الجزيرة من والي العمادية السكن في سميل فسمح لها بذلك.
وأسس فيها العثمانيون مخفرًا للجندرمة وتلالا للمراقبة في أواخر عهدهم في العراق. ثم أصبحت سميل مركزا لتجميع الأرمن إبان المذابح الأرمنية عام 1915، وفي العشرينات استوطن البلدة الآثوريون الذين نزحوا من جبال حكاري إثر المذابح الآثورية، غير أنهم تعرضوا في هذه المدينة عام 1933لمذبحة نتيجة قمع قوات الجيش العراقي بقيادة بكر صدقي للتمرد الآثوري الذي حدث آنذاك، وعرفت الحادثة تاريخيا باسم المدينة وسميت بـ «مذبحة سميل».
تحتضن سميل آثارا تاريخية مهمة، إذ اكتشفت فيھا مؤخرا مناطق أثرية احتوت العديد من اللقى والتماثيل بالقرب من الضفة الشرقية لنهر دجلة وتحديدا في موقعي ديرك وكمونة اللذين تعرضا للغرق سابقا، وعند تراجع مياه النهر تم الكشف عن المواقع الأثرية قرب سميل. إذ كشف علماء آثار من معهد دراسات الشرق الأدنى القديم في جامعة «توبنغن» الألمانية عن مدينة كبيرة من العصر البرونزي. فقد كشفت عمليات التنقيب عن المستوطنة التي تقع اليوم في قرية باستكي، والتي تعود تاريخيا إلى حوالي 3.000 ق.م. كما اكتشف علماء الآثار أيضا طبقات المستوطنة التي يعود تاريخها إلى فترة الإمبراطورية الأكدية (2340-2200 ق.م) والتي اعتُبِرت أول إمبراطورية في التاريخ البشري.
كذلك تضم المدينة التل الأثري الذي يتوسطها والذي تمت تعليته على الطريق البري الذي كان يمر شرقي دجلة ويربط العراق بإقليم ديار بكر وأرمينيا. فكان طريقا رئيسيا للتجارة بين وادي الرافدين وآسيا الصغرى. ونظرا لأهمية الطريق في اواخر العهد العثماني فقد أقيمت عليه التلول ربما لأسباب المراقبة العسكرية أو لتكون مرشدا ودليلا للقوافل التجارية والعسكرية وخدمات البريد. كما شيد على تل سميل في أواخر العهد العثماني في العراق مخفر للجندرمة بالإضافة إلى خان كبير يقدم خدماته للمسافرين والقوافل التي كانت تسلك هذا الطريق، وكان قسمٌ كبيرٌ منه باقيًا حتى سبعينات القرن الماضي.
دورها الكنسي ومخطوطاتها السريانية
سميل كنسيا تابعة لأبرشية زاخو ودهوك للكلدان، الكنيسة الكاثوليكية في العراق. حيث دخلت المسيحية للمدينة في زمن مبكر في القرن الثاني للميلاد، وتشهد بذلك الكثير من الأديرة والكنائس والمدارس المسيحية التي اقيمت في هذه المنطقة. وفي أواخر القرن الخامس الميلادي تبنت كنيسة سميل المذهب النسطوري (كنيسة المشرق الأرثودوكسية)، وكانت آثار كنيسة العذراء أم الرحمة شاخصة جنوب القرية حتى الحرب العالمية الأولى ومن الآثار المسيحية الباقية لحد الآن المخطوطات الطقوسية التي نسخت فيها بين سنة 1677و1711 وهي محفوظة في مكتبة البطرياركية الكلدانية.
فهناك مخطوط لرسائل القديس بولس يعود تاريخه إلى سنة 677 محفوظ في مكتبة مطرانية الكلدان في زاخو. وجاء في نهاية المخطوط بقلم كاتبه «انتهى من كتابة هذه الرسائل في قرية ألقوش يوم السبت 24/6/1677 في زمن أبو الآباء البطريرك مار ايليا التاسع، كتبه القس يلدا بن القس دانيال بن القس ايليا الألقوشي بناء على طلب القس ايسف بن شماشة كورييل بن ريس سيفو من قرية سميل في أرض نوهدرا إلى كنيسة العذراء أم الرحمة. ولا يحق لأي إنسان أن يتصرف به بدون علم الروساء».
أما عن تواجد السريان الغربيين في سميل فيقول الأب حنا أنه لم يسبق أواخر القرن السابع عشر أو اوائل الثامن عشر، وكانت سميل آنذاك تابعة لأبرشية دير مار متي، وورد ذكرها في رسالة التنصيب (سوسطاطيقون) المفريان لعازر الرابع سنة 1730. وكانت كنيستها باسم السيدة العذراء. وفيها كتب الشماس دنحا ابن القس بهنام البرطلـي كتاب «النحو» لمار سيوريوس يعقوب البرطلي سنة 1677على ما ذكر البطريرك اغناطيوس يعقوب الثالث في كتابه «دفقات الطيب» وذكر إن أهل سميل السريان بجملتهم انتقلوا إلى برطلة في القرن الثامن عشر.
وفي سنة 1915أصبحت سميل مركزًا لتجمع الأرمن المهجرين أثناء تعرضهم لحملة الاضطهاد التي شنتها عليهم حكومة الاتحاد والترقي العثمانية في عهد جمال باشا السفاح ورفاقه. وعندما أتم البريطانيون احتلال العراق وأخرجوا العثمانيون منه نهائيا عام 1918كانت الطائرات البريطانية تهبط شمال قرية سميل كل اثنين لنقل جنود الاحتلال البريطاني من وإلى بغداد. وسقطت إحدى طائراتهم في القرية عند الجهة الشرقية من التل الأثري في سميل. ويطلق أهالي مدينة سميل حتى اليوم على موقع التل الذي كانت تهبط فيه الطائرات اسم سهل الطائرات (دشتة دطياري).
في سنة 1924تم إسكان العديد من العوائل الآثورية في سميل وكانت بيوتهم منتشرة حول التل حتى 1933حيث حصل التمرد الآثوري وتلاه قمع الجيش العراقي العنيف لهذا التمرد، إذ قتل حوالي 400 فرد من الآثوريين في القرية التي كانت مركزا لتجمع المستسلمين منهم أثناء الحملة التي شنتها عليهم حكومة رشيد عالي الكيلاني آنذاك، وشاركت العشائر المحيطة بمدينة سميل في قتل وسلب ونهب ممتلكاتهم.
بعد ان أفرغت القرية من العوائل الآثورية، سكنت بيوتها العوائل الكردية وفي الخمسينات والستينات نزحت إلى سميل عوائل مسيحية من قريتي شيزي ومارياقو إثر اندلاع التمرد الكردي المسلح. وفي السبعينات سكنتها موجات مسيحية أخرى خاصة من منطقة زاخو بعد عمليات الترحيل.ولما لم يكن لهم كنيسة فيها لأداء طقوسهم الدينية قاموا سنة 1986 بشراء دار السيد أنور صندو وتحويره لأداء طقوسهم الدينية. وفي سنة 1996 قامت بلدية سميل في ظل حكومة إقليم كردستان بتخصيص قطعة أرض لغرض بناء كنيسة عليها.
وفي سنة 1999قامت منظمة أخوية المحبة «كاريتاس» بتمويل مشروع لبناء الكنيسة ودار سكن الكاهن والسياج الخارجي. وتم افتتاحها عام1999 من قبل قائمقام سميل وزاخو ومسؤولي القضاء وتكريسها من قبل سيادة المطران مارحنا قلو راعي أبرشيتي زاخو والعمادية. كما خصصت حكومة إقليم كردستان المبالغ اللازمة لبناء قاعة داخل أرض الكنيسة للنشاطات الاجتماعية والثقافية.
مذبحة سميل
تناول الأستاذ رياض ناجي الحيدري في كتابه «الآثوريون في العراق 1918- 1936» ص265، الحادثة التي عرفت باسم مذبحة سميل بالبحث العلمي والدراسة الموضوعية، إذ يقول: «لعل أهم حدث حصل في حركة الآثوريين ضد الحكومة العراقية في آب 1933، هي حادثة سميل وكان معظم سكانها البالغين أكثر من 700 نسمة من الآثوريين، أما الباقون فكانوا من العرب. وفى 10 آب 1933 لجأ إلى سميل عدد كبير من الآثوريين بعد مطاردة الجيش والشرطة إياهم، وقاموا بإنشاء مواضع لهم شمال القرية المذكورة لمهاجمة القطعات العراقية أثناء مرورها. فقامت الطائرات العراقية بإلقاء النشرات عليهم مطالبة إياهم بالاستسلام غير أنهم لم يستجيبوا لذلك، لهذا فقد حاصرت، قوات من الجيش والشرطة والعشائر، هذه القرية فتصدى لهم الآثوريون وأطلقوا عليهم النيران».
ويشير الحيدري إلى إن الأعمال التى قام بها الآثوريون في معارك ديره بون قبل أيام من أحداث سميل مثل قيامهم بالتمثيل بجثث بعض القتلى من الجيش، وإحراق بعضهم الآخر، تركت انطباعاً سيئاً عنهم لدى قوات الجيش العراقي والعشائر العراقية، فغلى الحقد في قلوبهم وتشوقوا لساعة الثأر والانتقام. كما أن مواقف ولي العهد الأمير غازي المتصلبة تجاه الانكليز شجعت الفريق بكر صدقي على انتهاز هذه الفرصة، فأمر الجيش والعشائر باستخدام القسوة والعنف مع الآثوريين المتمردين.
ويصف الحيدري ما دار في سميل بقوله: «دارت معركة رهيبة في سميل استمرت حتى مساء يوم 11 آب، مارس خلالها الجيش والعشائر أساليب لا إنسانية معهم فقتل منهم أكثر من 480 رجلا، و6 نساء و4 أطفال، كما قتل من العشائر 15 رجلا، وجرح ما يقارب العشرين منهم أيضاً، ولم يخسر الجيش أحداً في هذه المعركة وقامت العشائر بعد ذلك بنهب بيوتهم وتدميرها».
وخوفاً من حدوث ضجة عالمية، أبدى وزير الداخلية حكمت سليمان اهتمامه بما حدث، وأمر بإرسال المساعدات الطبية إلى سميل، وبذل جهوده لإخفاء آثار المعركة، فدفنت جثث القتلى بسرعة، وأعيد إصلاح بعض البيوت التي تعرضت للتخريب. وينقل عبد الرزاق الحسني في كتابه «تاريخ الوزارات العراقية» الجزء الثالث ص 273 تقريرا عن أحداث تمرد الآثوريين التياريين، رفعه وزير الداخلية حكمت سليمان إلى رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني يدعي فيه عدم تدخل الجيش في أحداث مذبحة سميل إذ يقول: «إن سميل قرية كبيرة يربو عدد بيوتها على المئة، ضمن ذلك 20 بيتاً من الأعراب، والبقية من التياريين، وهي في موقع متوسط ما بين كثير من القرى الصغيرة المأهولة بالآثوريين، وقد اتخذها الآثوريون مركزاً لاجتماعاتهم لتدبير المؤامرات، وبث الدعاية، وعلى إثر الشرارة الأولى من عصيانهم المسلح، نزح سكان القرى الآثورية المجاورة، من رجال ونساء، إلى سميل للاحتماء بها، وما لبث أن التحق بهذا الحشد الكبير جماعة من العصاة. ولكن العشائر التي كانت ترقب هذا الوضع عن كثب، وتسمع فظائع أعمالهم، وتشاهد تمردهم على الحكومة، أخذت تتجمع من مختلف الجهات بحماس وتوجع، فاشتبك الطرفان صباح 11 آب 1933، أي العشائر المحتشدة والكتلة الآثورية المتحصنة بسلاحها في قرية سميل، وحصلت مصادمة عنيفة استمرت نحو ساعتين، بلغ فيها عدد القتلى نحو 305 وقد تبين لدى التحقيق وعند الدفن أن بين القتلى عدد لا يستهان به من العشائر كما جرح منهم عدد كبير أيضاً. أما وحدات الجيش فإنها لم تشترك قطعياً بالمعركة، إذ كانت أثناء جريان هذه المصادمة في طريقها من زاخو إلى دهوك وقد أكد لنا آمر المنطقة الشمالية (يقصد الفريق بكر صدقي) أن قوة عماد لم تصرف طلقة واحدة منذ مصادمة ديره بون ولم يتكبد الجيش أي خسارة في الأنفس من جراء حادثة سميل لعدم اشتراكه فيها».
ويضيف تقرير وزير الداخلية إن «العشائر شرعت عقب المصادمة بالنهب والسلب، ولكن سرعان ما وفقت الشرطة إلى ايقاف التجاوزات وصد العشائر عن القرية، وتملكت ناصية الحال، ونظراً لوضع قرية سميل الذي وصفناه، واحتشادها بالآثوريين العصاة، وتجمهر العشائر، فإن وقوع المصادمة فيما بين هاتين الكتلتين كان نتيجة طبيعية لتلك الظروف. وأنا لنستغرب استغلال بعض الجهات هذه الحادثة، وتوجيه المسؤولية عنها إلى قوى الحكومة، التي هي براء مما وقع. ويخال لنا إن هذا التمويه يقصد منه الإساءة لسمعة الحكومة، لغايات بعيدة المرمى، وإني إظهاراً للحقيقة، وخدمة للتاريخ، أقدم لكم هذا التقرير مع صورة تقريري آمر مخفر سميل وقوة عماد، وكتابي الموجه إلى آمر المنطقة الشمالية، وجوابه عليه، للاطلاع».
ووصف المؤلف الآثوري العقيد يوسف خوشابا في كتابه «حقيقة الأحداث الآثورية المعاصرة» ص 241 أحداث سميل فقال: «لقد قام ملك خوشابا (ملك صفة أو لقب في اللغة الآثورية تعني الشيخ القبلي) بانقاذ الآثوريين من اتباع المار شمعون العائدين من سوريا والباقين منهم في العراق وعوائلهم وحمايتهم في تلك الظروف الحرجة. فقد كان ملك خوشابا في مصيفه في سر عمادية عندما قام ياقو بحركته، كما كنت أنا معه هناك أتمتع بعطلة مدرستي الصيفية، ولم يكن لدى ملك خوشابا تصور عما حدث في ديره بون، ولكن بعد ثلاثة أيام من تلك العملية وصل إلى المصيف مختار قرية سميل المدعو وردة اوشانا من عشيرة تياري العليا طالبا حماية والدي ومفيدا أنه بينما كان يحاول العودة مع جماعته من سوريا لتسليم أسلحتهم إلى السلطات العراقية والرجوع إلى قراهم، وأثناء عبورهم نهر دجلة فتح ياقو والبعض من أقربائه النار على القوات العراقية المتواجدة على الضفة الثانية للنهر ليفسدوا عليهم العودة بسلام إلى بلادهم. فحدثت معركة دموية كان نتيجتها ضحايا كثيرة من الطرفين وتفرق شمل الآثوريين فعاد قسم منهم إلى سوريا وتشتت آخرون في الجبال يرمون الوصول إلى قراهم وعوائلهم وإن حياتهم مهددة. فتحرك ملك خوشابا بسرعة لتدارك الموقف وإنقاذ ما يمكن انقاذه، فاتصل بماجد بك مصطفى قائمقام العمادية الذي أخبره بوصول حكمت سليمان وزير الداخلية إلى سولاف مقر القائمقامية الصيفي، فطلب موعدا مستعجلا لمقابلة الوزير للمداولة في الأحداث الآثورية الراهنة وتمخض الاجتماع عن قرار تشكيل قوة شرطة آثورية من رجال عشائر ملك خوشابا لحماية القرى والأملاك الآثورية من تعديات بعض العشائر العربية والكردية والإيزيدية التي استغلت هذه الأحداث للسلب والنهب والقتل، وبوشر فورا بعد الاجتماع بتشكيل هذه القوة».
كما يشير العقيد يوسف خوشابا في كتابه إلى لقاء والده الرئيس القبلي ملك خوشابا بالفريق بكر صدقي إبان تصاعد الأحداث، فيقول: «ولم يكتف ملك خوشابا بمقابلة وزير الداخلية وتشكيل الشرطة الآثورية والايعاز إلى عشائره بحماية الآثوريين، بل سافر بصحبة رؤساء آثوريين إلى الموصل وفي طريقه التقى بكر صدقي، القائد العسكري لمنطقة الموصل وآمر القطعات العسكرية المصطدمة مع الآثوريين، في معسكره قرب دهوك. وطلب إليه ايقاف إجراءات التعقيب لحين عودته من الموصل، وتعهد شخصيا بتحمل تبعات الأمر. فوافق صدقي على الطلب، وفي الموصل ذهب ملك خوشابا مباشرة إلى دار الحكومة وبقي في مقر المتصرفية على اتصال مستمر مع السلطات العليا في بغداد لاطلاعها على حقيقة الموقف والمطالبة بإصدار قرار العفو العام عن هؤلاء المغرر بهم وعن كل الذين رجعوا إلى العراق ولم يكن في نيتهم الاشتراك في حركة ياقو. فوفق في مسعاه ولم يغادر مبنى الحكومة إلى أن إطلع على قرار العفو وأشرف على طبع صيغته الموزعة على القرى الآثورية بعد أن عدل فيها من خلال مناقشة المسؤولين الحكوميين في المتصرفية أو الوزارة».
ورغم الرقابة الشديدة التي فرضتها حكومة رشيد عالي الكيلاني على أحداث سميل، إلا إن أخبارها تسربت إلى أوروبا، بواسطة المسيحيين في شمال العراق. كما أن الإنكليز عرفوا ما حدث في سميل بعد أن قامت طائراتهم بالتقاط صور جوية لها، فشوهوا بعملهم هذا سمعة العراق كثيراً، وتعرض بسببها لحملة انتقاد عنيفة شنتها عليه صحف الغرب رغم قيام الحكومة بالقاء مسؤولية ما حدث على العشائر فقط ونفيها أن يكون الجيش قد ساهم في هذه المعركة.
وحسما للموقف فقد وجه خليل عزمي نائب متصرف الموصل إنذاراً باسم الحكومة إلى من تبقى من الآثوريين، طالبهم فيه بتسليم سلاحهم وإعلان طاعتهم وخضوعهم لها خلال ستين ساعة، فباشر معظمهم بتنفيذ ما ورد في هذا الإنذار. وفي نفس الوقت عمدت الحكومة إلى إصدار تعليماتها لقوات الشرطة بمنع حصول أي تجاوز على قرى الآثوريين، وطلبت من الموظفين أن يعاملوهم معاملة حسنة، وقامت قوات الشرطة بتشتيت العشائر التي كانت متهمة بالانتقام منهم وسلب قراهم، كما قام طه الهاشمي رئيس أركان الجيش بزيارة الوحدات العسكرية وطلب إليهم الالتزام بالنظام والقانون وعدم القيام بأعمال انتقامية. وتطوى صفحة مذبحة سميل في ثنايا التاريخ الاشكالي للمنطقة.
صادق الطائي








