لا تقديس لأحد ولكن…

{clean_title}
الشريط الإخباري :  

الأنبياء في التاريخ لهم القداسة مهما كانت الآثار عنهم غير موجودة، لكن سيرتهم جاءت في الكتب الثلاثة لليهودية والإسلام والمسيحية. بعد الأنبياء، الأولياء الذين منحهم البشر قداسة عظيمة، وإن لم يحققوا معجزات الأنبياء. لا قداسة لأحد بعد ذلك حقا فحرية الرأي واسعة، لكن لا بد أن نفرق بين الرأي والذم الشخصي، أو الاتهامات بالخيانة وغيرها، دون دليل.
أقول هذا بسبب ما أراه حولي في مصر من نقاشات في شأن بعض الأدباء والفنانين، ومن يعملون في مجال الثقافة بشكل عام. ابتعدت عن الدخول في النقاش سائلا نفسي لماذا يتحمس العقلاء إلى درجة القدح، وإجمال أي كاتب أو فنان في جملة رديئة لاختلافهم، حين عملوا معه في أمر انتهى ومرّ عليه الزمن؟ كيف يمكن إجمال كاتب أو فنان في جملة واحدة مثل الخيانة، أو قلة القيمة بينما ما قدمه للجمهور قراء أو مشاهدين او مستمعين كان من أجمل ما يقدمه الكاتب أو الإعلامي أو الفنان.
رأيت ذلك في أكثر من تعليق على احتفاء قطاع قنوات النيل المتخصصة بالإعلامية القديرة سلمى الشماع، وتكريمها فظهر من يذمها من شخصيات أحبها وهذا أدهشني، لأنه تعامل معها فلم يعجبه تعاملها معه أو مع غيره. هل ما يحدث في العمل، أيْ عمل، يُرضي جميع العاملين؟ هذه السيدة كما كتب الناقد السينمائي طارق الشناوي أكثر إعلامية في تاريخنا، كانت قضيتها هي السينما المصرية، وفي عشرات من البرامج ناقشت كل أحلامها وأيضا كوابيسها بوعي وضمير وحب للوطن. كانت تقدم برامج تلفزيونية رائعة عن السينما وغيرها، مثل «ذاكرة السينما» و»عالم الجاز» و»المزيكا للجميع» و»زووم»، الذي أحيانا تذيع قنوات ماسبيرو زمان حلقات منها. شاء حظي أن التقي بها كثيرا في احتفالات جائزة ساويرس السنوية بالجوائز، وتناقشنا في سهراتنا في أمور ثقافية عظيمة، ولم أر منها إلا كل جميل، فهل سيجعلني وصفها بما هو سيئ من شخص عمل معها، أوافقه واختصرها في جملة واحدة من السب أو القذف. لقد عملتُ أنا في وزارة الثقافة خمسة وثلاثين عاما رأيت من كثيرين كل سوء، وكنت أعرف أن في الأمر غيرة ومنافسة على منصب أوكل لي، فتركت كل المناصب بإرادتي توفيرا لعقلي وروحي للكتابة، ولم أذكر أحدا منهم بسوء بشكل واضح، في ما كتبت من ذكريات. لقد مرّ تكريم سلمى الشماع رغم ذلك بأكبر حشد للاحتفاء بها، وكنت أتمنى حضوره لكنه جاء في وقت كنت مسافرا فيه إلى الإسكندرية.
تأتي المشكلة الأكبر التي تشغل كل صفحات الميديا الآن، وهي هجوم محمد الباز على الشاعر أحمد فؤاد نجم. اختصر الباز أحمد فؤاد نجم في ألفاظ غير لائقة، واتهمه بالخيانة للوطن، وهو الذي دفع سنوات طويلة من حياته مسجونا من أجل الوطن والناس، وكان له تأثيره الكبير على الأجيال، ما جعل ابنته الكاتبة نوارة نجم تذهب بالأمر إلى المحكمة. جاء الحكم مؤيدا لها لكنها تنازلت عن الشق الجنائي، أيْ الحبس، ولم تتنازل عن التعويض ما كان محل استحسان من الأغلبية، خاصة نقابة الصحافيين التي هي ضد الحبس في قضايا النشر، وإن كان أيضا محل انتقاد قليل من آخرين دعوا لضرورة التفريق بين حرية الرأي والذم الشخصي، فهذا يجب عدم التنازل عن عقوبته من الجهتين الحبس أو التعويض.
ابتعد عن هذه النقطة فأمرها نسبي متروك لأصحابها، وأعود إلى الأمر فأقول إن محمد الباز الأستاذ في كلية الإعلام في جامعة القاهرة، والآن هو رئيس إدارة وتحرير مؤسسة الدستور للصحافة والنشر والتوزيع، وله مؤلفات عديدة مهمة، منها «حدائق المتعة» و»ملوك وصعاليق» و»أفكار منحرفة» و»التجسس على الأقباط» و»الفرعون الأخير» و»حرب الجنرالات» وغيرها، لكن هذه الكتب المهمة تقدمها في الميديا انشغاله السياسي، والآن الهجوم على أحمد فؤاد نجم. كذلك جريدة «الدستور» التي يديرها في شقها الأدبي والثقافي تقوم بدور كبير في حياتنا الأدبية، بعيدا عن السياسة وتلعب فيها زوجته صفاء النجار، دورا كبيرا، وبالمناسبة هي من أهم الروائيات المصريات، لكن النقد بعيد عنها، ويبدو كأنها تدفع ثمن الموقف السياسي لجريدة «الدستور»، رغم أن أي عاقل يعرف أن منصات الإعلام الرسمية في مصر الآن لن تقدم في السياسة إلا ما يرضي السلطة. ومن ثم صرت أنا بعيدا عن التعليق على الجريدة من هذه الزاوية، وإن كنت كثيرا ما احتفي ببرامجها الثقافية وأحمد الله على هذه الشيزوفرينيا، التي أصابت النظام فلم يطلب كتابة رواية أو شعرا يمجد أفعاله ويبحث عن مفكر يضع له عنوانا مثل «الأدب والفن المفيد أو الأدب والفن للعظة، وغير ذلك كما حدث في الواقعية الاشتراكية، التي انفجرت بعد الثور البلشفية في أوائل القرن الماضي فقدمت أدبا لا يذكره أحد، وكانت سببا في فرار كثير من الأدباء من الاتحاد السوفييتى، أو حين انتقلت إلى مصر مع بداية خمسينيات القرن الماضي فأفرزت كتابا مباشري الرأي، فظهر يوسف إدريس وغطى عليهم جميعا تقربيا.
فجأة صارت قصيدة أحمد فؤاد نجم التي يمجد فيها خالد الإسلامبولي مُنفِّذ اغتيال أنور السادات خيانة وتمجيدا للإرهاب والإرهابيين، من دون اعتبار لزمانها، وما كان السادات يفعله في الحركة الوطنية، التي كانت ضد اتفاقيات كامب ديفيد وضد سياسة الانفتاح الاقتصادي. كيف تنتقل القصيدة من كونها رد فعل عادي لمن هم وراء الأسوار، لتصبح علامة على منهج لأحمد فؤاد نجم، رغم أن ظروف هذه القصيدة يعرفها من عاش زمنها، فقد أغلق السادات منافذ الديمقراطية التي فتحها وهتف أن للديمقراطية أنيابا، وجعل من نفسه الرئيس المؤمن ورب العائلة، وحين وقع الاغتيال كان أكثر من ألف وخمسمئة مثقف في سجونه بعد اعتقالات سبتمبر/أيلول عام 1981 وكان من بينهم أحمد فؤاد نجم. لم يحدث أن كان أحمد فؤاد نحم مناصرا للإرهاب، لا في قصائده السابقة أو التالية، ولا مواقفه التي هي في أعماله لمن يقرأ، وفي أغاني الشيخ أمام التي تحفل بها السوشيال ميديا والعابرة للزمان. هي قصيدة بنت وقتها لا أكثر ولا أقل. أقول شيئا لمن لم يعش تلك الأيام بحكم العمر، حين تم اغتيال السادات أُعلنت حالة الطوارئ في البلاد وحظر التجوال. كنت في الإسكندرية. خرجت في المساء إلى الشوارع رغم حظر التجوال فرأيتها حافلة بالبشر والمقاهي مفتوحة على اتساعها في كل طريق. وصلت إلى محطة الرمل فوجدت عربات هيئة الاستعلامات تمشي بين الناس تقول أيها الشعب إذا كان السادات قد مات فكلنا أنور السادات، والناس في الحدائق والمقاهي تلعب وتضحك. هل كانوا لا يعرفون ما فعله؟ الأقلية حقا كانت تعرف أنه هو الذي فتح الباب للحركات الإرهابية، وأقام لهم معسكرا للتدريب في أسيوط، يصدرونهم إلى أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي، لكن الأغلبية كانت تعرف بالاعتقالات وقبلها الارتفاع الكبير في أسعار كل شيء مع سياسة الانفتاح. فهل خانه الشعب كله؟
لو وضعنا ما نتصور أنه خطأ لكاتب أو فنان نُجمله بها في كلمة مثل الخيانة، فالأفضل البحث عن ظروفه، وليس هذا صعبا، خاصة على مثقف وكاتب.
سعد زغلول مثلا كان يهوى لعب القمار فهل هذا يقلل من شأنه السياسي العظيم.. عبد الناصر أرسى فكرة الزعيم الأوحد وفتح المعتقلات لمخالفيه في الرأي، لكن حين مات اسودت الدنيا أمام الجميع، الذين يعرفون إنجازاته في الثقافة والاقتصاد والصحة وغيرها. هل أخطاء عبد الناصر تجعلنا نجمله في كلمة قبيحة؟ وهل يختلف الأمر مع الأدباء؟ هل لا يقدمون ما هو عظيم من الفكر والإبداع، ولك حرية الإعجاب أو عدمه. اختلفوا كما تشاءون لكن دون سب وقذف وإجمال الكاتب أو الفنان في جملة واحدة من السب أو القذف. يا إخوتي في الوطن حذار من الدائرة فهي تدور دائما. وكما يقول المثل الشعبي الدنيا دوارة وهو مثل لم يأتِ من فراغ.

إبراهيم عبدالمجيد

كاتب مصري

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences