صوبة الكاز.. سيدة الشتاء!

{clean_title}
الشريط الإخباري :  
 رشاد ابو داود - كانت تجلس وسط الغرفة، اقصد البيت الذي هو تلك الغرفة، بكامل كبريائها و دفئها. اسمها علاء الدين أو فوجيكا. مختلفان لكن الدفء واحد. بيت الطين لا يحتاج الى أكثر من صوبة. الطين الذي منه خلقنا، يختزن الحرارة أكثر من الاسمنت الغبي.
صوبة واحدة تكفي. ربع تنكة كاز من دكان ابو فوزي بتسعة قروش تدفىء اسبوعاً. برميل الكاز في الدكان يبعث الحرارة في الحارة. يجلس على طوبتين وفي أسفله حنفية نحاسية وفوقه شبه ابريق من الصاج عيار ربع تنكة وآخر نصف الربع. فلم يكن بمقدور الكل ان يشتري الربع.
أما من كان بامكانه شراء نصف التنكة فعليه ان ينتظر مرور «طنبر» عزمي من امام بيته. الطنبر صهريج صغير يجره بغل أو حمار. يجلس عزمي فوق خشبة بين مؤخرة البغل وأول الصهريج حاملاً جرساً كبيراً ينادي : كااااااز كااااز. كان يلف أكثر من حارة، وان فاتك فما لك غير دكان أبو فوزي.
الصوبة لم تكن فقط وسيلة تدفئة فقط ففوقها يوضع ابريق الشاي حتى يغلي الماء. ملعقتان صغيرتان من الشاي الناشف ماركة الوزة الحمراء، قبل «اختراع» شاي الميداليات ذات الكيس و الخيط ماركة ليبتون. قليل من الميرمية وان اردت نعنعًا ان وجد، أما الميرمية فهي دائماً موجودة ليس للشاي فقط. انها صيدلية كل بيت و..لكل مرض طارىء. المغص، الحرارة، الكحة، وجع الراس وووو. وهي سهلة الاعداد، يسخن الماء في تنكة القهوة القديمة التي كسرت يدها فصنعت لها الجدة يداً من سلك مقوى، يوضع كم عرق ميرمية وتترك على النار حتى تغلي وتغلي و تغلي. حين تخف سخونتها تصب في كاسة، «كباية» كما كانوا يسمونها، يشربها المريض بشرط أن لا يضاف اليها السكر، لا أدري حتى الآن لماذا كانوا يجبرونا على تجرعها بدون سكر رغم ان طعمها علقم. هل من حكمة طبية في ذلك أم توفيراً للسكر الذي كان الرطل منه بعشرة قروش، حين كان القرش يشتري ما لا يشتريه الدينار اليوم.
ليس الشاي فقط ما كانت تصنعه الصوبة، الطبيخ ايضاً. فالمرأة الشاطرة كانت تقنع الأب المتعب بأنه «حرام يروح الكاز عالفاضي، خلينا نحط الطنجرة عالصوبة «. يوافق مقهوراً أول مرة، والمرات القادمة لا تسأله.
الكستناء كانت فاكهة الأغنياء الشتوية، اما الفقراء فلا كستناء لهم. لهم حبات بطاطا صغيرة تنتقيها الأم من رطل البطاطا و «تحوشها» لسهرة الأولاد. كلما كانت تستوي تدريجياً تتسلل رائحة الشواء الى شهية الأولاد الذين يتلذذون باكلها مع الملح و بدون خبز، المادة الرئيسية الأولى التي ان وجدت في البيت لا داعي للتفكير في غيرها، حبات بندورة، بطاطا، كوسا وما كان موسمه، طبيخ أغلبه شوربته تسبح فيها قطع الخضار والشاطر من يصطاد.
أتحدث عن زمن ما قبل خمسين سنة. أشفق على من يعيش اليوم كما قبل خمسين سنة وألعن من أوصلوا الناس الى العيش بصوبة واحدة وبربع كاز!!

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences