إغتيالُ الذكريات ...!!
الشريط الإخباري :
إغتيالُ الذكريات ...!!
بقلم د. عبدالرحيم جاموس
عاد منذ أسبوع إلى البلدة (مسقط رأسه) والتي شهدت خطواته الأولى، إلى أن غادرها لأجل إكمال تعليمه الجامعي في بلاد الغربة، ولكن الحرب حالت دونَ عودته وفرضت عليه غيابا قسريا عنها زاد عن خمسة عقود، عادَّ ويحمله الشوق إليها وإلى ذكرياته الأولى فيها التي لم تغادره قط طيلة فترة الغياب، حاول استرجاع ذكرياته رغم الوقت الضيق المتاح له في زيارة البلدة، ... يتذكر الأحداث والأمكنة والشخوص من مختلف الأجيال، واقرانه زمن الطفولة والمدرسة ..
صحى مبكرا، صلى الفجر ثم تناول افطارا بسيطا من الجبن الأبيض والزيت والزيتون والزعتر ...
ثم ذهب وجلسَ وحيداً منذ الصباح الباكرِ في باحةِ المقهى الذي يحتلُ ناصيةَ الشارع، ينتظرُ صديقاً قديماً قيلَ لهُ أنهُ من روادِ ذلكَ المقهى..
طلب فنجاناً من القهوةِ المرةِ وأخذ يقلبُ صفحاتِ المواقعِ الإليكترونيةِ ويطالعُ اخبارَ الوطن..
ارتفعتِ الشمسُ في بطنِ السماء، نظر إلى ساعةِ اليد على معصمه وإذا هيَ تشير إلى منتصف النهار، وصديقه القديم لم يحضر بعدُ إلى المقهى المعتاد كعادته في أيامِ الصيف، التفتَ حولهُ يميناً ويساراً علهُ يلحظُ صديقه أو شبيهاً لهُ على الأقل، فلم يرى سوى وجوهٍ غيرَّ مؤلوفةٍ لهُ، وعيونهم تنظر إليهِ نظراتٌ فيها بعضُ الإرتيابْ، لم تقلقهُ كثيراً نظراتهم، لأنه أدركَ أنهُ غريبٌ عنهم ..
اطرق مفكرا قليلا، ثمَ نادَى النادلَ طلبَ منهُ أن يحضر له كأساً من الشاي الأخضر بالنعناع، وقبلَ أن ينصرفَ النادل سأله عن صديقه الذي قيل له أنه من رواد المقهى إن كانَ يعرفه، علَّ النادلَ يفيدهُ ببعض المعلوماتِ عنه.... لكنَ النادل توقف صامتا بعضَ الوقت قبلَ أن يجيبَ على سؤالهِ، ثم قالَ: من متى يا عم لم ترى صديقك الذي تسأل عنهُ، قال: منذ ما يزيدُ على خمسة عقودٍ قد خلت يا بني .. فقد قيلَ لي أنه من روادِ هذا المقهى، ولذا جئتُ إلى هنا علني القاهُ، صمتَ النادلُ مستغرباً ان يأتي هذا الغريبً إلى هذا المقهى باحثا عن صديقه القديم بعد خمسةِ عقودٍ على الفراقِ بينهما ... ثم قال: وهل لكَ حاجةٌ لديه، أجابه لا يا ولدي أنا لا أبحثُ عن حاجةٍ ماديةٍ، أنا أبحث عن صديقي القديم الذي كنتُ واياه نلعبُ سوياً في أوقاتِ الفراغ، وكُنا زميلين في المدرسةِ ثم افترقنا للدراسةِ الجامعية، وحال الإحتلال دون لقائنا منذ ذلك الحين، وقد عدتُ منذ فترة قصيرة إلى البلاد، وأنا في شوق لكلِ ما فيها من بشر وحجر وشجر، ومن شدةِ شوقي أسألُ عن أقراني فلم أجد إلا عددا قليلا منهم لا يتجاوز أصابع اليدِ الواحدة، اغلبهم قد غادروا البلدة اما عنوة أو طلبا للعلم، ثم بحثا عن الرزق، وبعضهم قد توفاه الله في الغربة ولم نتمكن أن نلتقي، والقليل منهم تجمعنا بهم الصدفة في بعضِ الأحيان، اندهش النادل واغرورقت عيناه، وقال عمي عفوا تأخرت عليكَ اسمح لي أن أحضرَّ لكَ الشاي الأخضر الذي طلبت....
عادَ إلى صمته ولكنَ نظراته كانت تُحملكُ فيمن حوله تارة وفي المارة على الرصيف المقابل تارة أخرى، كأنه يبحث في وجوههم عن صديقه الذي لم يحضر ذاك النهار إلى المقهى..
لم يبقى له وقتٌ يقضيه في إنتظار صديقه القديم، حيث سيغادر غدا ثانية إلى منفاه ..
يحمل معه ذكرياتُ الطفولة التي اغتالها الإحتلال والمنفى وحالَ دونَ استعادتها مع صديقه القديم دون أن يعرف شيء عنه سوى أنه كان من روادِ ذلك المقهى ...
قد حرصَ النادلُ أن لا يثيرَ اشجانهُ، واخفى عنه خبرَ إنقطاع صديقهِ عن إرتيادِ المقهى منذ سنتين على الأقل ...
هكذا يغتالُ الإحتلالُ والمنفى الذكريات ...!
د. عبدالرحيم جاموس
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
الرياض 1 /1 / 2020م
بقلم د. عبدالرحيم جاموس
عاد منذ أسبوع إلى البلدة (مسقط رأسه) والتي شهدت خطواته الأولى، إلى أن غادرها لأجل إكمال تعليمه الجامعي في بلاد الغربة، ولكن الحرب حالت دونَ عودته وفرضت عليه غيابا قسريا عنها زاد عن خمسة عقود، عادَّ ويحمله الشوق إليها وإلى ذكرياته الأولى فيها التي لم تغادره قط طيلة فترة الغياب، حاول استرجاع ذكرياته رغم الوقت الضيق المتاح له في زيارة البلدة، ... يتذكر الأحداث والأمكنة والشخوص من مختلف الأجيال، واقرانه زمن الطفولة والمدرسة ..
صحى مبكرا، صلى الفجر ثم تناول افطارا بسيطا من الجبن الأبيض والزيت والزيتون والزعتر ...
ثم ذهب وجلسَ وحيداً منذ الصباح الباكرِ في باحةِ المقهى الذي يحتلُ ناصيةَ الشارع، ينتظرُ صديقاً قديماً قيلَ لهُ أنهُ من روادِ ذلكَ المقهى..
طلب فنجاناً من القهوةِ المرةِ وأخذ يقلبُ صفحاتِ المواقعِ الإليكترونيةِ ويطالعُ اخبارَ الوطن..
ارتفعتِ الشمسُ في بطنِ السماء، نظر إلى ساعةِ اليد على معصمه وإذا هيَ تشير إلى منتصف النهار، وصديقه القديم لم يحضر بعدُ إلى المقهى المعتاد كعادته في أيامِ الصيف، التفتَ حولهُ يميناً ويساراً علهُ يلحظُ صديقه أو شبيهاً لهُ على الأقل، فلم يرى سوى وجوهٍ غيرَّ مؤلوفةٍ لهُ، وعيونهم تنظر إليهِ نظراتٌ فيها بعضُ الإرتيابْ، لم تقلقهُ كثيراً نظراتهم، لأنه أدركَ أنهُ غريبٌ عنهم ..
اطرق مفكرا قليلا، ثمَ نادَى النادلَ طلبَ منهُ أن يحضر له كأساً من الشاي الأخضر بالنعناع، وقبلَ أن ينصرفَ النادل سأله عن صديقه الذي قيل له أنه من رواد المقهى إن كانَ يعرفه، علَّ النادلَ يفيدهُ ببعض المعلوماتِ عنه.... لكنَ النادل توقف صامتا بعضَ الوقت قبلَ أن يجيبَ على سؤالهِ، ثم قالَ: من متى يا عم لم ترى صديقك الذي تسأل عنهُ، قال: منذ ما يزيدُ على خمسة عقودٍ قد خلت يا بني .. فقد قيلَ لي أنه من روادِ هذا المقهى، ولذا جئتُ إلى هنا علني القاهُ، صمتَ النادلُ مستغرباً ان يأتي هذا الغريبً إلى هذا المقهى باحثا عن صديقه القديم بعد خمسةِ عقودٍ على الفراقِ بينهما ... ثم قال: وهل لكَ حاجةٌ لديه، أجابه لا يا ولدي أنا لا أبحثُ عن حاجةٍ ماديةٍ، أنا أبحث عن صديقي القديم الذي كنتُ واياه نلعبُ سوياً في أوقاتِ الفراغ، وكُنا زميلين في المدرسةِ ثم افترقنا للدراسةِ الجامعية، وحال الإحتلال دون لقائنا منذ ذلك الحين، وقد عدتُ منذ فترة قصيرة إلى البلاد، وأنا في شوق لكلِ ما فيها من بشر وحجر وشجر، ومن شدةِ شوقي أسألُ عن أقراني فلم أجد إلا عددا قليلا منهم لا يتجاوز أصابع اليدِ الواحدة، اغلبهم قد غادروا البلدة اما عنوة أو طلبا للعلم، ثم بحثا عن الرزق، وبعضهم قد توفاه الله في الغربة ولم نتمكن أن نلتقي، والقليل منهم تجمعنا بهم الصدفة في بعضِ الأحيان، اندهش النادل واغرورقت عيناه، وقال عمي عفوا تأخرت عليكَ اسمح لي أن أحضرَّ لكَ الشاي الأخضر الذي طلبت....
عادَ إلى صمته ولكنَ نظراته كانت تُحملكُ فيمن حوله تارة وفي المارة على الرصيف المقابل تارة أخرى، كأنه يبحث في وجوههم عن صديقه الذي لم يحضر ذاك النهار إلى المقهى..
لم يبقى له وقتٌ يقضيه في إنتظار صديقه القديم، حيث سيغادر غدا ثانية إلى منفاه ..
يحمل معه ذكرياتُ الطفولة التي اغتالها الإحتلال والمنفى وحالَ دونَ استعادتها مع صديقه القديم دون أن يعرف شيء عنه سوى أنه كان من روادِ ذلك المقهى ...
قد حرصَ النادلُ أن لا يثيرَ اشجانهُ، واخفى عنه خبرَ إنقطاع صديقهِ عن إرتيادِ المقهى منذ سنتين على الأقل ...
هكذا يغتالُ الإحتلالُ والمنفى الذكريات ...!
د. عبدالرحيم جاموس
عضو المجلس الوطني الفلسطيني
الرياض 1 /1 / 2020م