حلّ الدولتين والمشروع الاستيطاني في الضفة والقدس
الشريط الإخباري :
كل المعطيات على أرض الواقع في الضفة الغربية ومدينة القدس المحتلة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن ما يسمى بخيار حل الدولتين والذي هو وصفة دولية لحل المسألة الفلسطينية انتهى نظرياً وعملياً، وإن قيل غير ذلك وبصيغ منمقة وديباجات مزركشة فهو للاستهلاك الإعلامي والإيحاء باستمرار عملية لا وجود لها إلا في العالم الافتراضي، لأن المشروع الاستيطاني التوراتي الصهيوني فرض نفسه بقوة عبر خطط وإجراءات ممنهجة على أرض الواقع ومن خلال حكومات إسرائيلية متعاقبة بأيديولوجيات وتوجهات متباينة، تبنت شعارات ربما اتسقت ظاهرياً مع لونها الحزبي، غير أنها وفي الموضوع الاستيطاني تقاطعت لتؤدي إلى نفس النتيجة، وهي ترسيخ كيان المستوطنين بما يشبه الدولة في الضفة الغربية، وفي تهويد وأسرلة المدينة المقدسة والتي لم يبقَ منها إلا القليل من المظهر العربي الإسلامي العريق الذي يصارع التجريف الثقافي والتاريخي والديموغرافي من المؤسسة الرسمية الإسرائيلية ومن حركات توراتية صهيونية تستعجل تحقيق "الخلاص الموعود" وبناء الهيكل المزعوم.
مستجدان جديدان خلال عام 2019 أرخيا بظلالهما السوداوية على مجمل الحالة الفلسطينية، والضفة الغربية بشكلٍ خاص؛ القرار الأميركي التاريخي بعدم اعتبار المستوطنات في الضفة غير قانونية، ونية رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو واليمين الإسرائيلي الحاكم ضم غور الأردن وشمال البحر الميت تحت "السيادة الإسرائيلية"، فقد تبنت وزارة الخارجية الأميركية ومنذ عام 1976 رأياً قانونيا يعتبر المستوطنات في الضفة الغربية بعد عام 1967 غير شرعية، القرار الذي أعلن عنه وزير الخارجية الأميركي في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي يعتبر رمزياً من ناحية الشرعية الدولية ولن يدفع الدول الأخرى للمسارعة بتبنيه، لكنه من الناحية العملية يشجع الاستيطان ويرفع من وتيرة مصادرة الأراضي، ويمهد الطريق لاحقاً لضم المستوطنات في الضفة بمساحة لا تقل عن 15% من مساحة الضفة الغربية.
والمستجد الثاني يتعلق بإعلان نتنياهو في أيلول/سبتمبر الماضي أنه أعد خطة "لتطبيق السيادة الإسرائيلية على غور الأردن وشمال البحر الميت" أي ضم هذه المنطقة التي تشكل حوالي 28% من مساحة الضفة الغربية، والتي تعني أيضاً السيطرة على أكبر ثالث خزان للمياه الجوفية في الضفة، ووضع اليد على حوالي 38% من الأراضي الخصبة الزراعية في غور الأردن، ومن الناحية الاستراتيجية محاصرة الضفة الغربية من الناحية الشرقية بحزام استيطاني ومناطق عسكرية، وفصل الضفة الغربية عن امتدادها العربي الجغرافي والديموغرافي مع المملكة الأردنية، وهو ما يستحيل معه قيام دولة فلسطينية ذات معنى.
وفي سياق متصل أعلن وزير الأمن الإسرائيلي نفتالي بينيت عن بعض مضامين خطته لوقف البناء في المنطقة "C " ووقف ما أسماه "السيطرة الفلسطينية – الأوروبية" في الضفة في هذه المنطقة والتي تشكل حوالي 60% من مساحة الضفة الغربية الكلية، وتقتضي خطة بينيت منع أعمال البناء والتعمير الفلسطينية من خلال أربعة مستويات: عسكرية واقتصادية وقضائية وإعلامية، ولكن أبرزها هدم البيوت وفقا لأهمية الموقع الذي يجري فيه البناء من الناحية الاستراتيجية.
يستند السلوك الإسرائيلي إلى الإسراع في مخطط الاستيطان والسيطرة على الضفة الغربية وتهويد المدينة المقدسة، في ما أطلق عليه أقطاب اليمين الحاكم في الكيان بـ "الفرصة التاريخية التي قد لا تتكرر"، والتي تمثلت في استثمار الأوضاع الإقليمية والدولية المواتية والتي تركت هامشاً واسعاً لليمين الحاكم يأتي بالدرجة الأولى بفضل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فقد أبدى ترامب استعداداً وبتشجيع من فريقه السياسي للشرق الأوسط بقيادة جاريد كوشنير في التعاطي مع طلبات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واليمين الديني المتطرف الذي يشكل ائتلافه الحكومي، هذا هو الحال عام 2019، وربما أكثر عام 2020 مع تصاعد وتيرة الطلبات الإسرائيلية خشية أن يكون عام 2020 هو العام الأخير للرئيس ترامب والذي قد لا تتكرر نسخته خلال عقود قادمة، ومن جهة أخرى فإن الواقع العربي الإقليمي شجع نتنياهو على فرض برنامجه الاستيطاني في الضفة والقدس، في ظل العلاقات المتنامية بين نظام الانقلاب في مصر والكيان، والرسائل الناعمة من محور دول الخليج المتمثل في السعودية والإمارات والبحرين، والتنسيق السري، والتطبيع التجاري والثقافي والذي لم تعد تخفيه هذه الدول أو الممالك، وترويج نتنياهو لمواجهة الخطر الأكبر المتمثل في إيران وأذرعها الإقليمية والذي لم تعد فيه القضية الفلسطينية ذات أولوية، وبالتالي فإن أي سلوك إسرائيلي ضد القضية الفلسطينية، ومن ضمنها في الضفة والقدس لم يعد يثير اهتمام الأنظمة العربية وبالتالي لم يعد مسموحاً للشعوب كذلك الانتفاض ضده.
ورغم تسارع تطبيق المشروع الاستيطاني العام المنصرم، إلا أن كل الخطوات مجرد استكمال لحقائق ومخططات سابقة لها بداياتها منذ احتلال الضفة الغربية والقدس عام 1967، وترسخت بعد اتفاق أوسلو عام 1993، وكل بناء استيطاني أو شق طريق للمستوطنين أو مصادرة أراض هي ضمن خطوات تراكمية، قد تجد لحظة الحسم ومحطتها النهائية خلال العامين أو الثلاثة القادمة، ولكن ما واقع الضفة الغربية مع نهاية عام 2019؟
- بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية مع نهاية العام الحالي حوالي 448 ألف مستوطن، يتوزعون على حوالي 150 مستوطنة، و128 بؤرة استيطانية عشوائية "غير قانونية حسب التعريف الإسرائيلي"، بالإضافة إلى 25 منطقة صناعية استيطانية في الضفة الغربية.
- يسيطر الاحتلال عملياً على أكثر من 50% من مساحة الضفة الغربية؛ منها 11.6 % مناطق استيطانية (9.3% مستوطنات ومحيطها، وشبكة طرق على مساحة 2.3 % ) يقع بعضها داخل جدار الفصل العنصري والذي يتلوى في عمق الضفة الغربية ضاماً معه أكثر من 65 مستوطنة، وحوالي 20% مناطق عسكرية مغلقة تتوزع فيها 94 قاعدة عسكرية، وحوالي 20% محميات طبيعية وأراضي دولة لا يسمح للفلسطينيين بالبناء فيها.
- قسم الاستيطان والطرق الالتفافية الضفة الغربية إلى ثلاثة كانتونات رئيسية، الأول في شمال الضفة ويضم مدن نابلس وجنين وطولكرم وجنين وطوباس ويرتبط بطريق مع مدينة رام الله، والثاني شرقاً ويضم مدينة أريحا، والثالث جنوباً ويضم مدن ومحافظات الخليل وبيت لحم، وفصلت المستوطنات والطرق الالتفافية بين هذه الكانتونات نفسها وبين امتداداتها الجغرافية في المناطق "C "، وأوجدت ما يزيد على 60 معزلاً يتحكم بها الجيش الإسرائيلي بأكثر من 100 نقطة تفتيش ومعبر ثابت.
هذه المؤشرات تؤكد أن الدولة الحقيقية التي على وشك التشكل في الضفة الغربية هي دولة المستوطنين بفضل شبكة المستوطنات المترابطة عبر الأنفاق والجسور والطرق الالتفافية، والتي تحول التجمعات الفلسطينية في الضفة إلى جزر مترامية ومبعثرة وبأحجام مختلفة في بحر المستوطنات والمناطق العسكرية الإسرائيلية.
أما مدينة القدس فقد بلغ عدد المستوطنين مع نهاية العام حوالي 228 ألف مستوطن يتوزعون على 15 مستوطنة، تلحق بها منطقة صناعية واحدة، ولم يبق للمقدسيين سوى 13% للبناء والإعمار بعد أن سيطر الاحتلال على 87% من مساحة القدس؛ 35% منها تمت مصادرتها بحجة "المصلحة العامة" للاستيطان وملحقاته، و52% تحولت إلى مناطق خضراء ومحميات طبيعية، ومناطق تراثية.
وعلى الصعيد الديموغرافي تخطط بلدية القدس التابعة للاحتلال لإخراج حوالي 125 ألف فلسطيني مقدسي خارج حدود مدينة القدس، بعد أن فصل الجدار العازل بين الامتداد الطبيعي مع مدينة القدس، وبين مخيم شعفاط وعناتا، وقرى كفر عقب، ومخيم بير نبالا، الرام، الجيب، الضاحية، الزعيم، حزما، العيزيرية، أبو ديس، السواحرة، الشيخ سعيد.
ويكمن السلوك الإسرائيلي تجاه المقدسيين ديموغرافياً في تقليص عدد المقدسيين العرب إلى 12% من مجمل عدد سكان القدس الشرقية والغربية، مع أن المقدسيين يشكلون حالياً حوالي 23% من مجمل عدد السكان اليهود والعرب في القدس بشطريها، تمارس أدوات الاحتلال التعليمية والصحية والثقافية عليهم دورها في محاولات تغيير ثقافتهم وانتماءهم، فقد وصل عدد الطلاب الفلسطينيين الملتحقين بالمدارس الإسرائيلية حوالي 53%، بينما يلتحق الباقي بالمدارس الحكومية والخاصة الفلسطينية.
كما تواصل مخطط طمس الطابع الإسلامي لمدينة القدس، وأسرلة كل مرفق وشارع وحي، والإسراع في مخطط الفصل الزماني والمكان للمسجد الأقصى، فقد تجسدت معالم التهويد في شبكة الأنفاق والكنس التي تشبه المدينة تحت المسجد الأقصى البلدة القديمة، فعلى سبيل المثال يخترق 57 نفقاً المسجد الأقصى من الأسفل، و5 أنفاق تحت سلوان، و8 أنفاق في مناطق متفرقة من مدينة القدس، وهناك آلاف المدافن والقبور الوهمية لليهود شرقي المسجد الأقصى، وتحديداً في المنطقة الواقعة في بلدة سلوان وجبل الزيتون، ومخطط الحدائق التوراتية السبع التي تحيط بالأقصى والتي ستغير المظهر الإسلامي التاريخي لمناطق المحيطة بالمسجد الأقصى.
وقد وصل عدد المستوطنين المقتحمين للمسجد الأقصى مع نهاية العام أكثر من 20 ألف مستوطن، ويزداد مع كل عام عدد المستوطنين المقتحمين ومدة مكوثهم في الحرم، مع محاولات أداء بعض الطقوس التوراتية، ويهدف اليمين الصهيوني بهذه الإجراءات إلى فرض التقسيم الزماني والمكاني المسجد الأقصى على غرار تقسيم المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل.
ويبدو مع ذلك كله أن اليمين الحاكم في دولة الاحتلال نجح في العام المنصرم بالتقدم خطوات كبيرة سياسية نحو إنجاز المشروع الاستيطاني في الضفة والقدس، وقد يكون العام القادم فرصة للشروع في مخطط الضم، ربما غور الأردن وشمال البحر الميت، أو المستوطنات الرئيسية (غوش عتصيون، بيت إيل، أرئيل) بدعم من الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
ومع كل ذلك الواقع على الأرض، لا تبدو السلطة الفلسطينية في وارد تغيير سياساتها تجاه عملية التسوية العقيمة، ولا تزال تحلم بتغيير في إسرائيل يعيد إحياء عملية "السلام" من جديد رغم تغير الواقع كثيراً وغياب أي فرصة حقيقية لقيام حل الدولتين.