من أين أنت ..؟ من فلسطين
الشريط الإخباري :
بقلم :ميساء أبو زيدان.
الاسم الأول هو أكثر ما كان يُعرّف به المناضل خلال الثورة المعاصرة في أحيانٍ قليلة والحركي في كثيرٍ من الأحيان أما اسم العائلة فقد تم تداوله في المعاملات الرسمية المُلحة فقط، وحول المنطقة الجغرافية التي ينحدر منها داخل فلسطين لم تؤخذ بالحسبان إلا ما ندر. وبعد عودة جزءٍ كبير من القوات إلى الوطن فور توقيع إتفاق أوسلو عام 1993 بدأ العديد باكتشاف أسماء عوائل رفاق دربهم ومناطقهم بحكم ما فرضه الواقع حينها والذي لم يشكل ما هو أهم من أن العودة كانت إلى فلسطين. فأيّة بقعة ٍ منها هي وطن؛ الوطن الذي لطالما حلم الفدائيون واللاجئون بأن تطأ أقدامهم أرضه ويقبلوا ترابه. لم يَعرِف المناضل إسمه ولا عائلته أوعشيرته ولا دينه أوبلدته أو مدينته، فما هو الأهم من أن تَعرِف بأنك فلسطينيّ الهوية والجذور!
أثيرت جدلية العلاقة بين الدولة المدنية والقبلية التي كونت منظومة المجتمعات الشرقية في بدايات القرن الماضي والتي كانت قد برزت أيضاً في كثيرٍ من الحضارات عبر حقبٍ زمينة مختلفة، إلا أنها غدت واقعاً وتحدياً في آنٍ واحد تَجَسّمَ أمام إرادة التحرر من سطوة المُستعمر باتجاه الحرية والاستقلال الفضاء الذي تطلعت له شعوب المنطقة وهي في خضم مواجهة ويلات الاستعمار وقبلها بشاعة الإحتلالات. المُشترك بين مختلف القوى التي سيطرت على المنطقة العربية هو تعميقها لظاهرتي الإقطاع والعصبية القبلية والمذهبية واستخدامها خدمةً لمصالحها كقوى تسعى للاستيلاء على موارد المنطقة المتنوعة عبر محاولاتها رهنَ إرادة الإنسان وبشتى الوسائل والسياسات التي اتّبعتها، مما حدى بالثورات والقوى الوطنية التي نادت للتحرر من الاستعمار على امتداد المنطقة للفظ ومحاربة هذه الظواهر وحشد الطاقات للتوحد في هوية وطنية جامعة، المُلاحظ حينه أن العصبية الدينية لم تجد لها حاضنة في ثقافة بلدان المنطقة أو بين ثنايا أنسجتها المجتمعية.
لكل مجتمعٍ نظمه الخاصة به المبنية على مجموعة من الأبعاد الأساسية المرتبطة بمكوناته وبتعبيرٍ آخر فإن لكل مجتمع صبغته التي تحدد شكل بنيانه المُرتكز لطبيعة العلاقة بين أفراده، وكون المجتمعات في المنطقة العربية لم تمتلك المقدرة التي تخولها بأن تصبح في مصاف الدول المُنتجة انحصرت نظمها بمستوى العلاقات القائمة على محددات عائلية أو سياسية أو اعتقادية. الأمر الذي أدركته معظم القوى التي سيطرت على المنطقة واستغلتها لتعزيز توجهاتها الاستعمارية ومع ذلك لم تحظَ أهدافها بالإنجاز كون التوجهات الوطنية تجاوزت سلطة النظم الإجتماعية بحيث تم تسخير كافة الجهود والإمكانات لإنجاح الثورات بل أصبح معيار المُفاضلة بين الطبقات الإجتماعية المختلفة هو مدى الانخراط ضمن الإرادات الوطنية. وبهذا نسجت الثورات في فلسطين علاقة الأفراد بعضهم ببعض ليتجلى ذلك بالنصف الثاني من القرن المنصرم في هيكل الثورة الفلسطينية المعاصرة الذي ضم مختلف القوى وبمختلف المواقع والميادين، فالحُلُم الفلسطيني تنافى والبعد العائلي أو المناطقي أو العقائدي إذ
أنَّ القضية ارتكزت لمفهوم التحرر وصولاً للحرية.
الحال الذي لم يدم طويلاً فور إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية حيث رضخت القيادة الفلسطينية حينه للواقع الذي سيطر على المكونات المجتمعية التي سادت اعتقاداً منها أنه الأسلوب الأنجع لتطويعها خدمةً لهدف التحرر الوطني وبناء الدولة، لكن ما حدث واقعاً جاء عكس اعتقادها بحيث سيطرت النظم البنيوية التي شكلت المجتمع الفلسطيني على معظم المُقدرات والمكونات الوطنية المُنطلق. فاختُزِلَ الحلم الفلسطيني لجغرافي وعشائري وعقائدي واستُنزِف النضال لصالح قضية الشعب لنضالات ثانوية اجتماعية الأبعاد، وأصبح الفرد يُعرّف عن ذاته من خلال عائلته أو دينه أو منطقته بل وصلت أحياناً للطبقية الحديثة عوضاً عن هويته كفلسطيني.
تأتي الثورات للقضاء على واقعٍ متردٍ أو التخلص من استبداد قوى رجعية أو استعمارية عبر إحداثها تغييراً جوهرياً في البُنى الإجتماعية والثقافية والإقتصادية بحيث يغدو المجتمع الحاضنة لأفراده وفئاته المختلفة على حد السواء والقائم على جملة من المعايير التي تكفل مدنيته أهمها سيادة القانون. وإن أردنا التعمق أكثر نجد أن الواقع الفلسطيني انجرف باتجاه التقسيمات التي لم تخدم الفلسطيني فرداً ولا جماعات بل باتت الأداة الطيّعة في يد الإحتلال وأجهزته، فأصبحت العلاقة بين الأفراد قائمة على المنافع الآنيّة والوهمية بظل الواقعٍ السياسي المعقد؛ والتي لنا أن نستحضرها مثالاً حاضراً في قطاع غزة حيث لم تغفر للفرد مكانته العشائرية أو المناطقية أو الإقتصادية ولا حتى الدينية لتنهار النظم الإجتماعية برمتها أمام بطش إرادةٍ صِيغت بأضداد مفردة الوطنية.
أن تلجأ الإرادة الوطنية مؤخراً لإرادة العشيرة درءاً لمخاطر الإصابة بفيروس (كوفيد-19) ندركه بمستوى التوجهات التي تسعى للتقليل من حدة التهديد الذي يعترض إنساننا الصامد على أرضه الفلسطينية، لكن الخشية من أن يدفعنا هذا للتساؤل: هل فشلت الإرادة الوطنية في بناء نظم مجتمعية تكفل لشعبنا المًضي بمساريّ التحرر والبناء؟ إذ أن رأس المال والعشائرية والمناطقية في حسبان مَن صاغ مخططات القرن كونها انتعشت كمونات على حساب الثورة ومنطلقاتها، الأخطر هنا يكمن في تكريس البعد العقائدي بهدف طمس المكونات الأصيلة للشعب الفلسطيني والتي حفظت للأرض هويتها وجذورها، وعليه نقف أمام التساؤل الأكبر: هل تحطم الحلم الفلسطيني على صخرة النظم البائدة وهل فقدنا حقاً الهوية الجامعة (أنا من فلسطين)؟