"بلفور" القرن الواحد والعشرين ..
الشريط الإخباري :
بقلم: ميساء أبو زيدان.
تَظهَر إدارة ترامب فور توقيع اتفاق السلام الذي شهده البيت الأبيض منتصف الشهر الحالي بين تل أبيب وأبو ظبي والمنامة وكأنها اللاعب الرئيس الذي أنجز الاتفاق، لكن وبعد تتبع مسار الجهود التي بُذلت فعلياً لتحقيقه يظهر أن اللاعب الرئيس ومنذ سنين هو رئيس الوزراء البريطاني الأسبق (توني بلير) والذي صرّح قبل أيام بأنه: "يجب إقامة السلام أولاً بين الدول العربية وإسرائيل وعندها فقط يجب إدراج القضية الفلسطينية". لنجد أنفسنا مرةً أخرى أمام انسجام المواقف بين الإدارتين الأمريكية والبريطانية بخصوص آليات حل الصراع العربي-الإسرائيلي، والذي تجلى سابقاً إبان حرب العراق عام 2003.
يتصدر بلير المهشد مرةً أخرى عبر دوره الذي يتخذ من الاستشارات مضماراً له بدأهُ فور استقالته من رئاسة الوزراء عام 2007، والتي أعقبها تعيينه وبذات اليوم مبعوثاً دولياً للجنة الرباعية الدولية الخاصة بالسلام في الشرق الأوسط. ويبدو أنه اضطلع بدورٍ رئيسي لمتابعة قضايا الشرق الأوسط من خلال كونه ممثلاً عن الإرادة الدولية لكن يتضح (وحسبما تُظهر تحركاته) أنه يمثل أيضاً إرادة ومواقف المملكة المتحدة التي لطالما اتخذت من الطابع الشخصي منهجيةً لسياساتها. وبالإشارة إلى كثيرٍ من الوثائق المسرّبة كتلك التي نشرتها صحيفة التليغراف البريطانية فقد تركّز دور بلير ذلك من خلال برنامجه الدولي المُستنِد لمجموعة شركات ومؤسسات مثل (ويندروش للمشاريع المحدودة ،وفايررش ،ومبادرة الحكم في أفريقيا، وتوني بلير وشركاؤه، وغيرها) العاملة في مجالي التجارة وتقديم الاستشارات، حصد بواسطتها عشرات بل مئات الملايين من الجنيهات الإسترلينية عبر صفقات وعقود وقعها مع بنوك ومؤسسات مالية وحكومات وشخصيات متنفذة حول العالم تحديداً في االشرق الأوسط وافريقيا وشرق آسيا خاصةً تلك التي تعاني الأزمات والنزاعات.
وفي الوقت الذي تعرّض فيه لتحقيقات بشبهات أُثيرت حول أنشطته (التجارية) واستغلاله لمنصبه كمبعوث أممي وسلسلة الاعتراضات التي تقدمت بها قوى يسارية ويمينة في بريطانيا، حظيَّ بلير بخدماتٍ أمنية ولوجستية أثناء جولاته ورحلاته ذات نفقاتٍ ضخمة ألقِيت على عاتق دافعي الضرائب في بريطانيا حتى أن شرطة سكوتلاند يارد رفضت التعليق على الترتيبات الأمنية المتعلقة به، ورغم مجموع تلك المحاولات التي بادرت بها جهاتٍ محلية لم يتعرض دوره لتهديدٍ فعليّ بالمساءلة من قبل السلطات البريطانية إلى يومنا هذا.
أما عن الأدوار التي لعبها من خلال مواقعه أو حتى بعد؛ وبعيداً عن الدور الذي أداه في الحرب على العراق بدايات القرن الحالي ومدى إسهامه من خلال قراره بالحرب بالتعاون مع عقلية الكاوبوي الأمريكية في تمكين إيران من كسب الجولة في الميدان العراقي بحيث تمكنت (عبر البوابة الشيعية) من مفاصل الدولة ومؤسساتها (إيران التي يجاهرونها العداء)! فإن أبرز تلك الأدوار ظهر عبر التحالف الذي صنعته المخابرات البريطانية الخارجية (إم آي6) بين بلير والعقيد الراحل معمر القذافي لأهدافٍ تجاوزت ليبيا، العقيد الذي قضى في غارة كان للاستخبارات البريطانية دوراً فيها!
أما عن الدور الذي دأبه في مصر عبر ملفاتٍ عديدة اشتركت بمعظمها (بخلاف هيكلة اقتصاد مصر) بمسألة الإسلام السياسي فقد اتسم بجملةٍ من التناقضات التي شابت مواقفه، ففي حين يتخذ من محاربة (التطرف الإسلامي) هدفاً لتوجهاته نجده يحذر الغرب في فبراير العام 2011 من التعرض لجماعة الإخوان المسلمين، بل اعتبر أن (الثورة) حينه "فرصة هائلة ليس لمصر فحسب بل للشرق الأوسط باتجاه التغيير والتحديث والديموقراطية". ليعود ويعلن دعمه للسلطات المصرية وثقته بالجيش المصري ومن ثَم وتحديداً في العام 2014 يتوجه لمصر حاملاً مبادرة التنظيم الدولي للإخوان التي تطالب القيادة المصرية بعدم حل حزب (الحرية والعدالة) والإفراج عن قياداته بل الاعتذار للإخوان المسلمين ومحاكمة الضباط المصريين الذين (تورطوا في أعمال عنف ضد أعضاء الجماعة) !
ورغم تقديمه لنفسه على أنه مُخلّص المنطقة من تهديد الإسلام السياسي وبعيداً عن دوره في ملف التهدئة بين الإسرائيليين وحركة حماس (التي شدد على أهمية أن تكون جزءًا من عملية السلام في الشرق الأوسط في تصريحٍ منه لصحيفة التايمز) نجد أن أهم مستشاريه الأعضاء في المجلس الاستشاري لجمعية توني بلير (فيّث) هما اثنين من أبرز القيادات الإسلامية وذات الصلات الوثيقة بتنظيم الجماعة الدولي.
مما تقدم واختصاراً لكثيرٍ من التفاصيل التي تُحيط بأدوار توني بلير وتوجهاته في منطقتنا وانطلاقاً من التصريحات التي أدلى بها مؤخراً حول الاتفاقات التي بدأت تُعقد بين دول الخليج العربي وإسرائيل برعايةٍ أمريكية (ظاهراً)، فإن الواضح من طبيعة الأدوار والمواقف التي يتبناها بلير أنه يعمل على المنهجية الأساسية التي اعتمدتها بريطانيا في التعامل مع الشرق الأوسط أهمها الحفاظ على المصالح الاستراتيجية للملكة المتحدة فيها، والتعاطي مع القضية الفلسطينية على قاعدة تحقيق الأمن للإسرائيليين، والبقاء على مقربة من قادة الخليج. الأهم في هذا كله هو الهدف من إعلان اتفاقيات السلام تلك (وليس تطبيع العلاقات بين العرب وإسرائيل والذي بدأ فعلياً منذ سبعينيات القرن الماضي) المُتجسد بالرؤية الأمريكية المنسجمة والموقف البريطاني بخصوص حل الصراع في المنطقة من خلال تحقيق سلامٍ إقليمي مع الحرص على عدم فرض أية حلول على إسرائيل، وأن حل القضية الفلسطينية سيغدو رهناً لجملة تلك الاتفاقات والواقع الإقليمي الجديد الذي يجهد له توني بلير (بلفور) القرن الواحد والعشرين.