التحوُّل من النظام السياسي إلى المنظومة السياسية
لدكتور: رشيد عبّاس
عندما يتعلق الأمر بمسألة (الفساد) و(الإصلاح) واللتّان ترتبطان بمصلحة الوطن والمواطن العليا يتوجب علينا أن نبدأ بسؤال مفاده: هل يكمن الخلل في القوانين و النصوصّ الدستورية بما يقتضي ضرورة تعديلها؟ أم أنّ منطق الابتزاز والمناورة من بعض الاطراف ورغبتهم في تحصيل أكبر عدد من المكاسب السياسية والمالية والمناصب الوزارية هي التي تجعلهم يفتعلوا الأزمة؟ عند هذه الإشكالية, جلالة الملك قال كلمته, فرفع فيها الأقلام المأجورة, وجفّف فيها الصحف المشبوهة, موعزاً على جناح السرعة تشكيل لجنة ملكية من شأنها تحديث المنظومة السياسية, لسّد نوافذ الفساد, وفتح أبواب الإصلاح على مِصراعيها.
أن التحول من النظام السياسي إلى المنظومة السياسية, خطوة في الطريق الصحيح, لإحداث الإصلاح السياسي الذي طالب ويطالب فيه الشعب الأردني الاصيل بكافة فئاته ومكوناته, وما اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية التي أوعز الملك عبد الله الثاني بتشكيلها مؤخراً إلا دليل على حُسن النوايا وصدقها للمضي في طريق الإصلاح السياسي المنشود, من اجل منْعِ مداخل التغوّل السياسيّ من البعض، ومن اجل الشعور بالمسؤولية الوطنية, ومن اجل الانتقال الدّيمقراطي, بعيدين كل البعد عن منطق الغرور, والأحادية, والمنفعة الفئوية, واقتسام الغنيمة.
وقد رأى جلالة الملك عبد الله الثاني أن طريقة تسيير الدولة لمؤسساتها السياسية والمالية والاجتماعية باتجاه واحد, لم يعد يلبي متطلبات وطموح الشعب الأردني, الأمر الذي جعله يفكر ملياً بطريقة أخرى من شأنها أن تنظم هياكل الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبأكثر من اتجاه واحد, وطبيعة هذا التحوّل من النظام السياسي إلى المنظومة السياسية يتطلب من كافة الاردنيين الارتقاء إلى ثقافة (الدولة المدنية) كما جاءت في الأوراق النقاشية التي طرحها جلالة الملك, وبالذات الورقة النقاشية السادسة التي تناول فيها الحديث عن سيادة القانون كأساس للدولة المدنية على اعتبارها ليست رديفاً للعلمانية, وليست نقيضاً للدين, والتي تركز بدورها على العدل والمساواة والمواطنة واحترام التعددية.
أدرك الملك أن زوبعة الشعب على الفاسدين لا يعالج إلا عن طريق التحول من النظام السياسي إلى المنظومة السياسية المتكاملة, حيث أن المنظومة السياسية تضمن حق الجميع في ابداء الرأي والمشاركة في الحياة السياسة, فهي الضامن الذي يعطي الجميع حقه كامل غير منقوص, سواء كان في الاغّلبية, أم كان في الاقلّية, وأن خطاب المنظومة السياسية خطاب متعدد الجوانب, وهذا على العكس تماماً من خطاب النظام السياسي الذي يتصف بأحادي الجانب, في الوقت الذي يكون مطلوب فيه تنقية النظام السياسي من شوائبه القديمة كي يكون جزء لا يتجزأ من المنظومة السياسية.
أن الانتقال الدّيمقراطي الحقيقيّ يقتضي تحديث المنظومة السياسية التي تسبّبت في تراجع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الرّاهنة, والبحث عن استراتيجيات تنمويّة مغايرة للاستراتيجيات السابقة من أجل أن تكون في خدمة المصلحة العامة للوطن والمواطن, فاتباع النظام السياسي بشكله السابق, والابقاء على الخيارات نفسها والاشتغال على خطاب الأزمة بشكل مستمرّ كأداة لإدارة مؤسسات الدولة أوصل الأردنيين إلى الإحباط, وانسداد الأفق وتفاقم الفقر والبطالة وضعف القدرة الشرائيّة واستفحال الفساد..كل ذلك يؤكد على أن النظام السياسي السابق كان لديه قصور في تقديم البدائل الحقيقية لتدعيم هياكل الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يطمع اليها الشعب الأردني كافة.
نعم, لقد حسم جلالة الملك موضوع الجدل الناشئ, من خلال الإيعاز السريع لتشكيل لجنة ملكية لتحديث المنظومة السياسية, ليسّد الطريق أمام من تخوّل له نفسه العبث بمجمل الإصلاح السياسي المنشود, واعتقد جازماً أن هناك فرص حقيقية للانتقال من طور الأزمة, إلى مرحلة استقرار الدولة وتثبيت مؤسّساتها والمضيّ قدماً نحو منظومة انجازات سياسية واقتصادية واجتماعية حقيقية عناوينها الرئيسية محاصرة الفساد, وإصلاح وتحديث هياكل الدولة ومراجعة سياساتها العامّة.
نعم, النظام السياسي أرهق الدولة ومؤسّساتها، وعمّق ما يطرأ على المشهد السياسي من صعوبات، خاصّة مشكلة غياب نظام برلمانيّ معدّل, وغياب التوازن بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية..كيف لا وأنّ النظام السياسي الحالي يثير عددا من الاشكالات من حيث توزيع الصلاحيات بين السلطات, مع وجود نقاط تقاطع أخرى تثير الارباك والتشويش بين أجهزة الدولة، وهذه اللجنة المشكّلة معنّية بتحديد فيما اذا كانت المشكلة هي مشكلة ثغرات دستورية وقانونية, أم هي مشكلة من تخبّط متسرّع في تأويل قوانين الدستور، وعلى جميع الأوجه فان الأنظمة السياسية تحتاج إلى مراجعة وتعديل وتحديث بين فترة واخرى لكي تلبى طموح الشعب الأردني.
أن ضعف أداء الهيئات الدستورية المستقلّة وخضوعها للتأثر بشكل من الأشكال بممارسات بعض المتنفذين الكبار, يكشف لنا جميعاً أن هذه الهيئات غير محصّنة ضدّ ممارسة هؤلاء المتنفذين, وربما باتت تشوّه المسار الديمقراطي لدينا, وعنوان لتصغير الحياة السياسية في هياكل الدولة, غير ابهين بثقل التوازنات داخل تركيبة هذه الهيئات, فالانتقال الديمقراطي الذي يُفترَض أن يتمّ على المستوى الدستوري والقانوني وعلى المستوى السياسي ويُترجَم على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي غير فاعل عند كثير من هذه الهيئات الدستورية المستقلّة، وهذا بالضرورة يتطلب تغليب خطاب الدولة وليس اي خطاب آخر, من اجل مصلحة الوطن والمواطن, وتحمّل المسؤولية السياسية والأخلاقية, والتخلي عن منطق الغنيمة والمحاصصة, للوصول إلى استساغة نظام برلمانيّ معدّل.
أن تكديس القوانين والنصوص الدستورية كنظام سياسي جامد, لا يعني بأي شكل من الأشكال تجديد الفكر الدستوري أو الفكر السياسي وإصلاحه, إنما تحديث المنظومة السياسية كما أشار لها جلالة الملك هي التي تحترم إرادة الأمّة وتترجم تطلّعاتها وطموحاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتحفظ كرامتها,..كلنا أمل أن يكون لكل عضو من بين الـ(92) عضواً في اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية نفس الفرصة في ابداء الرأي واحترم الرأي الاخر, وأن تغّول البعض فيها لا قدر الله سيجعل البعض الآخر شاهد لم يرى شيئاً, ومثل هذا الشاهد عليه أن يعتذر وينسحب من اللجنة من البداية, قبل أن يتبوأ مقعده من النَّار.
ومن الاهمية بمكان انجاز المهمة في الموعد المحدد, فجلالة الملك بانتظار نتائج أعمال اللجنة التي تتضمن التوصيات ومشاريع القوانين المقترحة، على ألا يتأخر تقديمها عن موعد انعقاد الدورة العادية المقبلة لمجلس الأمة..نريدها (هذه المرة) كما أرادها جلالة الملك عبد الله الثاني,..طاولة حوار سياسية مفتوحة لمئوية ثانية للدولة الأردنية, فلم يعد للشعبويّة والنجومّية اليوم مكانة تُذكر بيننا..
وبعد,
مفهوم الإصلاح الحديث, لا يعني اليوم وضع الفاسدين وإن تعددت صورهم وأشكالهم خلف القضبان, مع أن ذلك ضروري, وانما هو إعادة صياغة وتفعيل مجموعة من القوانين الدستورية العادلة والتي من شأنها أن تمنع وصول كل هؤلاء الفاسدين للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى مؤسسات الدولة.