زيارة جلالة الملك لمقامات الصحابة..والرد على المُشغِّبين..
الشريط الإخباري :
الحمد لله ربِّ العالمين،والصلاة والسّلام على سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين،وبعد:
فإنَّ زيارة جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه اللّه تعالى ورعاه لمقامات الصحابة الكرام في المزار الجنوبي..زيارة موفقة ومباركة..
وهي تدلّ على مبلغ اهتمام ورعاية جلالته لمقامات الصحابة الكرام، وتعظيم هؤلاء الصحابة الأجلاء الذين بذلوا الغالي والنفيس من أجل الدفاع عن الإسلام الحنيف،حتى بذلوا أنفسهم وأرواحهم دفاعا عن دين اللّه تعالى وشرعه الحكيم..
وهذه الزيارة الملكيّة المباركة تأتي في هذا السياق من ربط المسلمين بهؤلاء الأبطال من صحابة سيّدنا رسول اللّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم، وذلك لكي يكمل التأسي بهم والاقتداء بفعالهم العظيمة الجليلة..
ولا يوجد ما يمنع من ذلك شرعا البتّة، بل إنّ زيارة هذه المقامات والأضرحة المباركة داخلة في عموم قول سيّدنا رسول الله صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم المرويّ من حديث عبد اللّه بن بريدة عن أبيه رضي اللّه عنه قال : قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلّم:( كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا) رواه مسلم في صحيحه ،وفي لفظ عند الترمذيّ في سننه :(فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ) .
قال الإمام الكبير النووي رحمه اللّه تعالى : (اتفقت نصوص الشافعيّ والأصحاب على أنّه يُستحب للرجال زيارة القبور ،وهو قول العلماء كافة،نقل العبدري فيه إجماع المسلمين، ودليله مع الإجماع الأحاديث الصحيحة المشهورة،وكانت زيارتها منهيا عنها أولاً ثم نُسخ..). انظر لذلك "شرح المهذب" (5/284)
ولذلك فإنّ تشغيب بعض الخوارج المارقين ممّن ينتسب للسلفيّة المعاصرة على وليّ الأمر بسبب تلك الزيارة الملكيّة المباركة،ومحاولة إخراجها عن سياقها الشرعيّ والوطنيّ،وربطها بالتشيّع ونشره ودعمه في الأردن: إنّما هو كلام خطير وخبيث، وخروج مارق وصارخ على وليّ أمرنا حفظه اللّه تعالى، وهو
اعتراض على إرادته الحكيمة وتحميل لزيارته مالا تحتمل من المعاني الباطلة، وتهييج للعامّة والدّهماء على الدولة والنظام وقيادتنا الهاشمية الحكيمة،حَامِلةِ لواء الإيمان والأمانة منذ سطوع فجر الإسلام الحنيف،وهي- أعني قيادتنا الهاشمية- من أحرص المسلمين على ديننا وقيمنا العربية والإسلامية
ولذا علينا أنّ نعلم-في هذا المقام-بأنّ زيارة تلك المقامات والأضرحة المباركة ليست حدثا جديدا ولا دخيلا على أبناء وطننا الحبيب..
فإنّ الأردنيين كانوا وما زالوا معظمين لآل البيت الأطهار ولأصحاب رسول اللّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم وللعارفين والأولياء من عباد اللّه الصالحين...
وما زلت أذكر ويذكر غيري من الأردنيين على اختلاف أجيالهم تلك الزيارات المدرسيّة التي كانت تُنظَّم مِنْ قِبلِ وزارة التربية والتعليم الأردنيّة إلى تلك المقامات والأضرحة المباركة وأخذ الدورس والعِبر والبركات منها،كلّ ذلك-كما ذكرت آنفا-بإشراف مباشر من وزارة التربية والتعليم في بلدنا الحبيب..
فلم تكن زيارة تلك المقامات والأضرحة الشريفة في حِسّ ووجدان أبناء بلدنا الحبيب أمرا منكرا أو مستهجنا،ولن يكون ذلك كذلك بإذن الله تعالى...
وأبناءُ بلدنا الحبيب على درجة من الوعي والثقافة فلم يكن،ولن يكون بإذن اللّه تعالى من جرّاء هذه الزيارات المباركة لمقامات الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام والصحابة الكرام وغيرهم من الأولياء والصالحين أي شيء يُخالِف عقائد أهل الإيمان لا من قريب ولا من بعيد..
وممّا يجِبُّ علمه أنَّ زيارة قبور الأنبياء وآل البيت الأطهار ومقامات الصحابة والأولياء مشروعة بالكتاب الكريم والسُّنّة النبويّة المطهرة وهذا ما جرى عليه عمل الأمّة سلفًا وخلفا، فقد كان علماء المسلمين وعوامُّهم عبر العصور والأزمان يزورون قبور الأنبياء والصالحين وآل البيت الأطهار ويتبركون بها من غير نكير، فزيارة قبور آل البيت الأطهار والأنبياء والأولياء والصالحين هي من آكد القربات وأجلّ الطاعات،وسُنّة حسنة جرى عليها عملُ أهل الإسلام على مدى القرون الماضية.
وأمّا القول بأنّها بدعة أو شِرْك أو ذريعة إلى الشرك فإنّه قول مرذول مردود، لا يقول به إلا أهلُ الغلو والتكفير من الخوارج المارقين، وهو كذب على اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وطعن فى الدين وحَمَلَتِه، وتجهيل لسلف الأمّة وخلفها، وفهم مغلوط لنصوص الكتاب والسُّنّة.
ولذا فإنّ على المسلم الحريص على دينه أنْ ينأى بنفسه عن هذه الأقوال الفاسدة والمناهج الكاسدة المخالفة لما عليه جماهير المسلمين سلفا وخلفا.
ومِن الأدلة القرآنيّة على جواز بل واستحسان زيارة قبور وأضرحة الأنبياء والصالحين
قول اللّه تعالى في سورة الكهف:
(قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) حيث جعلت الآية الكريمة بناء المساجد على قبور الصالحين التماسًا لبركتهم وآثار عبادتهم أمرًا مشروعًا ومستحسنا.
حتى قال الإمام البيضاويّ رحمه اللّه تعالى:
(لمّا كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة، ويتوجهون فى الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانًا، لعنهم اللّه ومنع المسلمين عن مثل ذلك ونهاهم عنه، أما من اتخذ مسجدًا بجوار صالح أو صلّى فى مقبرته،وقصد به الاستظهار بروحه ووصول أثر من آثار عبادته إليه -لا التعظيم له والتوجه - فلا حرج عليه؛ ألا ترى أنّ مدفن إسماعيل فى المسجد الحرام ثم الحَطِيم، ثم إنّ ذلك المسجد أفضل مكان يتحرى المصلي بصلاته، والنهي عن الصلاة فى المقابر مختص بالمنبوشة؛ لما فيها من النجاسة].
قلت: وهذا كلام علميٌّ فَصْلٌ ومتين مِنْ علاّمة مُحقق في بيان فهم هذه الآية الكريمة،وما قد يُعارضها في الظاهر من بعض المرويّات الحديثيّة،وكيفيّة فهمها وتوجيهها.
وأمّا الأدلةمن السُّنّة النّبويّة الشريفة، فأكثر من أنْ تُحصى في مثل هذا المقام،
من ذلك أنّ سيّدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قام بزيارة قبر أمّه عليها السّلام؛ فقد روى الإمام أحمد في مسنده،ومسلم فى صحيحه،وأبو داود وابن ماجه في سننهما،وغيرهم من حديث أبي هريرة رضى اللّه عنه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم زار قبرَ أمّه، فبَكَى وأبكى مَن حولَه، وأخبر أنّ اللّه تعالى أذن له في زيارتها، ثم قال: (فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ).
وقد وصَّى سيّدنا رسول اللَّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أمّته بآل بيته الأطهار على وجه الخصوص من سائر الصالحين من أمّته، فعن زيد بن أرقم رضى اللّه عنه، قال: قَامَ رَسُولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى «خُمًّا» بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: ( أَمَّا بَعْدُ! أَلاَ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّى فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ الله، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ الله وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ). فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ الله وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: (وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ الله فِى أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ الله فِى أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ الله فِى أَهْلِ بَيْتِي).
رواه الإمام مسلم في صحيحه.
بل إنّ زيارة المسلم لقبورهم ومقاماتهم آكدُ وأعظم من زيارته لقبور أقربائه وأرحامه من المسلمين كما قال سيّدنا أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه: (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ الله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي)،وقال رضي اللّه عنه أيضا: (ارْقُبُوا مُحَمَّدًا صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فِى أَهْلِ بَيْتِهِ). رواهما الإمام البخاري في صحيحه.
ومن المعلوم عند أهل العلم والنّظر بأنّ الصلة لا تنقطع بالموت، بل إنّ زيارة القبور جزء من الصلة التي رغّب فيها الشارع الحكيم.
وقبور الأنبياء وآل البيت الأطهار والصالحين هي مواضع مباركة يُستَجاب عندها الدعاء؛فإن قبور أهل الجنّة من الأنبياء والصالحين إنّما هي روضات من رياض الجنّة؛ إذ يقول سيّدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: (الْقَبْرُ إِمَّا رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الْجنَّةِ، أَو حُفْرَةٌ مِن حُفَرِ النَّارِ).
وقبور آل بيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم،وغيرهم من الصحابة والصالحين تتنزل عليها البركات والصلاة من اللّه تعالى فى كل وقت وحين؛فإنّه لا يخلو زمان من عبدٍ يُصلي داعيا في صلاته بحصول الصلاة والبركة على سيّدنا محمّد وآل سيّدنا محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، كما فى الصلاة الإبراهيميّة المعروفة
والمشهورة.
وهذا يقتضي تجدد الصلوات والبركات والرحمات على أضرحتهم وقبورهم فى كل لحظة وحين، فهم موضع نظر الله تعالى، ومَن نالهم بسوء أو أذى فقد تعرض لحرب الله عز وجل، كما جاء فى الحديث القدسيّ: ( مَن عادى لي وَلِيّا فقد آذَنتُهُ بالحَربِ).
وقد ذكر جماعات من أهل العلم الأكابر في كتبهم ومصنفاتهم بأنّ من مواطن استجابة الدعاء قبور وأضرحة الأنبياء والصالحين،وأنّ ذلك من بركات تلك الأماكن والمقامات الشريفة.
من ذلك ما ذكره الإمام الكبير الذهبيّ رحمه اللّه تعالى في كتابه (سير أعلام النبلاء)،فقد ذكر في ترجمة الوليّ الصالح معروف الكرخيّ عن إبراهيم الحربيّ، قال: (قبر معروف التّرياق المجرّب. فقال الذهبيّ معلقا: يريد إجابة دعاء المضطر عنده؛ لأنّ البقاع المباركة يستجاب عندها الدّعاء، كما أنّ الدّعاء في السّحر مرجوّ، ودبر المكتوبات، وفي المساجد) انتهى كلام الذهبيّ رحمه الله تعالى.
فانظروا يا رعاكم الله كيف أقرَّ الذهبيُّ قول الإمام الكبير إبراهيم الحربي من أنّ قبر الإمام معروف الكرخي ترياق مُجرَّب ويُصرِّح بأنّه يُستجاب عند قبره الدعاء.
وكذلك ما ذكره الذهبيُّ في ترجمة الإمام محمّد بن إسماعيل البخاري حيث ذكر عن أبي عليّ الغسّانيّ أنّه قال : (أخبرنا أبو الفتح نصر بن الحسن السّكتيّ السّمرقنديّ،قال: قحط المطر عندنا بسمرقند في بعض الأعوام، فاستسقى النّاس مرارا، فلم يُسقوا، فأتى رجل صالح معروف بالصّلاح إلى قاضي سمرقند فقال له: إنّي رأيت رأيا أعرضه عليك قال: وما هو؟ قال: أرى أن تخرج ويخرج النّاس معك إلى قبر الإمام محمّد بن إسماعيل البخاريّ، ونستسقي عنده، فعسى الله أن يسقينا.قال: فقال القاضي: نعم ما رأيت. فخرج القاضي والنّاس معه، واستسقى القاضي بالنّاس، وبكى النّاس عند القبر، وتشفّعوا بصاحبه، فأرسل الله تعالى السّماء بماء عظيم غزير أقام النّاس من أجله بخرتنك -مكان قبر البخاري- سبعة أيّام أو نحوها، لا يستطيع أحد الوصول إلى سمرقند من كثرة المطر وغزارته، وبين خرتنك وسمرقند نحو ثلاثة أميال).
وكذلك ما قَاله الإمامُ الذَهَبِيُّ في تَرْجَمةِ أبي أيوب الأنْصَارِي رضي الله عنه : (فَلَقَدْ بَلَغَنِي : أنَّ الرّومَ يَتَعَاهَدُونَ قَبْرَهُ ، ويَرُمُّونَهُ،
وَيَسْتَسْقُونَ بهِ).
وقال:( فَكَانُوا إِذَا قَحَطُوا ، كَشَفُوا عنْ قَبْرِهِ ، فَأُمْطِرُوا).
وقَالَ في ترجمةِ أمِّ حَرَامٍ بنت ملحَان رضي اللّه عنها: (وَبَلَغَنِي أنَّ قَبْرَهَا تَزُورُهُ الْفِرَنْجُ).
وقال فِي ترجمة خالدِ بن الوليد رضي اللّه عنه:( وَمَشْهَدُهُ عَلَى بَابِ حِمصَ ، عَلَيْهِ جَلاَلَةٌ).
وقَالَ في ترجمةِ الْمَنْصُور بن زَاذان:(قَبْرُهُ بِواسِط يُزارُ ).
وقَالَ في ترجمةِ أبي مُسْلِم الْخَوْلاَنِي: (وبِدَارِيّا قَبْرٌ يُزارُ ، يُقَالُ : إِنَّهُ قَبْرُ أَبِي مُسْلِم الْخَولاَنِي ، وذَلِكَ مُحْتَمَلٌ).
وقَالَ فِي تَرْجَمَةِ عبيدَةَ السّلْمَانِي:( فإذَا فَاتَكَ الْحَجُّ، وتَلَقَّيْتَ الْوَفْدَ، فَالْتَزِمِ الْحَاجَّ، وقَبِّلْ فَمَهُ ، وَقُلْ: فَمٌ مَسَّ بالتَّقْبِيلِ حجَراً قَبَّلَهُ خَلِيلِي صَلّى اللهُ عليه وسلَّم ).
وقَالَ فِي تَرْجَمَةِ أبي حنيفة: (وعَلَيْهِ قُبَّةٌ عَظِيمَةٌ، ومَشْهَدٌ فَاخِرٌ بِبَغْدَادَ).
وقَالَ فِي تَرْجَمَةِ إبراهيمَ بنِ أدهم: (وَقَبْرُهُ يُزَارُ) .
وقَالَ فِي تَرْجَمَةِ السّيّدة نَفِيسة: (وقيلَ : كَانَتْ مِنَ الصَّالِحاتِ الْعَوابِدِ ، والدُّعَاءُ مُسْتَجَابٌ عنْدَ قَبْرِهَا ، بلْ وَعِنْدَ قُبُورِ الأنْبِياء والصَّالِحينَ).
وقَالَ فِي تَرْجَمَةِ أبي بكر أحمد بنِ لاَلٍ: ( والدُّعَاءُ عِنْدَ قَبْرِهِ مُسْتَجَابٌ) .
وقَالَ فِي تَرْجَمَةِ ابنِ وكيع: (وَبَنَوا عَلَى قَبْرِهِ قُبَّةً).
وقَالَ فِي تَرْجَمَةِ ابنِ تُرْكان: (وَقَبْرُهُ يُزَارُ ).
وقَالَ فِي تَرْجَمَةِ ابن فُوَرَك : (قَالَ عبدُ الغافِرُ في سياقِ التّاريخ : الاستّاذُ أبوبَكْرٍ قَبْرُهُ بالحيرَةِ يُسْتَسْقَى بِهِ) .
وقَالَ فِي تَرْجَمَةِ أبي إسْحَاق الإسْفَرَايينِي: (نُقِلَ تَابُوتُهُ إِلَى إسْفرايين ، ودُفِنَ هُنَاكَ بِمَشْهَدِهِ ...وَحَكَى أبو الْقَاسِم الْقُشَيْرِي عَنْهُ أنّهُ كَانَ يُنْكِرُ كَرَاماتِ الأولياء ولا يُجَوِّزُهَا ، وهَذِه زَلَّةٌ كَبيرَةٌ ).
وقَالَ فِي تَرْجَمَةِ الخَطيب البَغْدَادي : (وَخُتِمَ عَلَى قَبْرِهِ عِدَّةُ خَتَمَاتٍ).
وقَالَ فِي تَرْجَمَةِ ابنِ زيرَكَ: (وَقَبْرُهُ يُزارُ ، ويُتَبَرَّكُ بهِ).
وقَالَ فِي تَرْجَمَةِ قَسيم الدّولة: (نقَلَهُ ولَدُهُ الأتابك زَنْكِي، وأنْشَأ عَلَيْهِ قُبّةً) .
وَقَالَ فِي تَرْجَمةِ الْعِجْلِي: (وذَكَرَ ابنُ النَّجّار : أنَّ قَبْرَهُ يُقْصَدُ بِالزِّيَارَةِ).
وقَالَ فِي تَرْجَمَةِ الْكَامِل: ( قال المُنذِري : ... ودُفِنَ فِي تَابوت قُلتُ : ثُمَّ بَعْدَ سَنَتَيْنِ عُمِلَت لهُ التُّربة، وَفُتِحَ شُبَّاكُها إلَى الْجَامِعِ).
وهذا غيض من فيض،ممّا سَطَّرهُ الإمام الذهبيّ وغيره من أهل العلم الأكابر في مصنفاتهم ممّا جرى عليه أهل الإسلام من زيارة قبور ومقامات وأضرحة الصالحين، وتعظيم أمرها،والتبرك بها،والدعاء عندها،واعتقاد استجابة الدعاء في تلك المواطن الشريفة المباركة.
ولذلك كلّه فإنّ لزيارة قبور الأنبياء وآل البيت الأطهار والصحابة والأولياء فضيلة عظيمة لا يُدركها إلا مَنْ نوّر اللّه قلبه للحقّ والهدى.
وممّا ينبغي معرفته كذلك في هذا المقام بأنّه تُباحُ زيارةُ القبورِ ومقامات الصالحين للنِّساءِ كذلك، وهو مذهَبُ الحَنفيَّة، وقولٌ للمالكيَّةِ، وقولٌ عند الشَّافعيَّة، وروايةٌ عن أحمد بن حنبل، واختاره الإمام القرطبيُّ وغيره من أهل العلم المتقدمين ، ومن المتأخرين الشوكانيُّ وغيره.
والأدلَّة من السُّنَّة على ذلك كثيرة منها:
١- عن بُريدَةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (نهَيْتُكم عن زيارَةِ القُبورِ فزُورُوها).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ السِّياقَ يدُلُّ على سَبْقِ النَّهْيِ ونَسخِه؛ فيدْخُلُ في عمومِه الرِّجالُ والنِّساءُ.
٢- عن عبدِ اللهِ بنِ أبي مُلَيكةَ،(أنَّ عائشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها أقبلَتْ ذاتَ يومٍ من المقابِرِ، فقُلْتُ لها: يا أمَّ المؤمنينَ مِن أينَ أقبَلْتِ؟ قالت: مِن قَبرِ أخي عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرٍ. فقلت لها: أليسَ كان رسولُ اللهِ صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم نهى عن زيارَةِ القبورِ؟ قالت: نعم، كان نهى، ثُمَّ أَمَرَ بزيارَتِها).
وجه الدلالة من ذلك ظاهرة بيّنة،بل في حديث عائشة رضي اللّه عنها أنّ سيّدنا رسول اللّه قد أمر بزيارة القبور وهو أمر فوق الجواز والمشروعيّة؛ذلك أنّ الأمر الصادر عن اللّه تعالى،أو عن رسوله علية الصلاة والسلام أقلّ ما يُقال بأنّه يدلّ على الاستحباب كما هو مقرر في علم أصول الفقه.
٣- عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عنها، قالت: (ألَا أُحَدِّثُكم عنِّي وعن رسولِ اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم، قلنا: بلى.. الحديثَ،وفيه: قالت: قلْتُ: كيف أقولُ لهم يا رسولَ اللّه؟ قال: قولي: السَّلامُ على أهلِ الدِّيارِ من المؤمنينَ والمُسْلمينَ، ويَرْحَمُ اللهُ المُستَقدِمينَ مِنَّا والمُستَأخرينَ، وإنَّا إن شاءَ الله بكم لَلاحقونَ).
وَجهُ الدَّلالةِ من ذلك:
أنَّ تعليمَ النبيِّ صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم لها هذا الدُّعاءَ يدُلُّ على جوازِ زيارَةِ النِّساءِ للمقابِر.
٤- عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللّهُ عنه، قال: (مرَّ النّبيُّ صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ، فقال: اتَّقي اللهَ واصبري. قالت: إليكَ عَنِّي؛ فإنكَ لم تُصَبْ بمُصيبتي- ولم تعرِفْهُ- فقيل لها: إنَّهُ النبيُّ صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم، فأتت بابَ النبيِّ صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم، فلم تَجِدْ عندَه بوَّابِينَ، فقالت: لم أعرفْكَ، فقال: إنَّما الصبرُ عندَ الصَّدْمةِ الأُولى ).
وَجهُ الدَّلالةِ من ذلك:
أنَّه عليه الصلاة والسلام لم يُنْكِرْ عليها زيارَتها للقَبرِ،بل أنكر عليها ما فعلته عند القبر ممّا يخالف واجب الصبر عند البلاء، ولو كانت زيارة القبور أمرا منكرا في حقّ المسلم والمسلمة لأنكر ذلك عليها؛ ذلك أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة أمر ممتنع في حَقِّه عليه الصلاة والسلام.
وكذا حُكمُ زيارَةِ قَبرِ غير المسلم مِنْ قِبل المسلم أمر جائز،وهذا مذهَبُ الشَّافعيَّة،والحَنابِلَةوهو قولُ ابنِ حَزْمٍ الأندلسيّ وغيره من أهل العلم المحققين.
كلّ ما سبق تقريره من مسائل وفوائد تتعلق بزيارة القبور ومقامات الأنبياء،وآل البيت الأطهار،والصحابة والصالحين هو الحقّ والهدى الذي درج عليه أهل الإسلام سلفا وخلفا، وخلاف ذلك انحراف عن الصواب والهدى.
وأمّا محاولة الربط بين زيارة تلك المقامات والأضرحة الشريفة من جهة والتشيّع من جهة أخرى،أو الربط بين التصوف والتشيّع،فهذه كلّها محاولات فاشلة وبائسة لا علاقة لها بواقع الحال،وحقيقة الواقع لا من قريب ولا من بعيد..!!!
فإنَّ كلَّ مَنْ يدّعي بأنّ التصوف بوابة إلى التشيّع..فهو كذّابٌ مفتر.
ذلك أنَّ التصوف السليم هو مقام من أعلى وأجلّ مقامات الدين الحنيف،ألا وهو مقام الإحسان..
وأهله هم أهل اللّه وخاصته..
والتصوف كان وما زال بفكره العميق وأهله العارفين باللّه تعالى سَدَّا منيعا أمام كلّ الأفكار الهدّامة والطوائف الضالّة..
والقائل بغير ذلك كذّاب ومُبطل وصاحب فتنة.
وإنّ من أعظم محاسن التصوف والسادة الصوفية أنّه لم يخرج منهم تكفيريٌّ البتّة..
وأما الناقمون والحاقدون على التصوف وأهله فقد خرج من رحم فكرهم الخبيث التكفير والتفجير وتدمير بلاد وأوطان الإسلام والمسلمين...
ثمّ مِنْ متى أصبح حُبُّ وتعظيم آل بيت رسول الله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم تشيّعا منكرا،ومذهبا مذموما...؟!!
أليس حُبُّهم وموالاتهم من صلب ديننا الحنيف،ومن أَجلِّ الطاعات والقربات..؟!!
إنَّ هؤلاء القوم السفهاء بكلامهم هذا،ومحاربتهم للتصوف المبنيّ على حبّ آل البيت الأطهار يُظهرون نصبهم ومعاداتهم الباطنة لآل البيت الأطهار.
وإنّ هؤلاء المشاغبين والمُشنّعين على أهل التصوف، وعلى القائلين بجواز زيارة المقامات والأضرحة الشريفة،ليس لهم من العلم دليل،ولا من الهدى نصيب، وهم من المُكفِّرين الخوارج المارقين الذين حذّرنا منهم سيّدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
كفانا اللّه وسائر المسلمين شرّهم، وحفظ اللّه بلدنا الحبيب،ووليّ أمرنا جلالة الملك المُفدَّى من كلِّ سوء ومكروه،اللّهمّ آمين آمين.
والحمد للّه ربِّ العالمين.
بقلم / الأمام الخطيب "عمر البطوش"