الشهيد محمد كريم الطراونة يولد من جديد...
الشريط الإخباري :
نصار إبراهيم _فلسطين
هكذا كرك الأردن لا ترسل لفلسطين إلا من يرفع الرأس.
ذات حزيران، قبل 54 عاما، نهض محمد كريم الطروانة. ودع أمه ووالده وإخوته وأصدقاءه، القى نظرة حبيبة على مدينته الجميلة الكرك، حمل بندقيته وحلق غربا نحو القدس. وصل. ألقى التحية على القدس وعلى رفاق السلاح الذين كانوا يلازمون خط الواجب والمسؤولية على أسوار القدس وبواباتها وأحيائها. سار على أسوار المدينة ثم انحدر إلى حي الشيخ جراح، وهناك قرب الأرض حفر ورفاقه خندقا، وأقسموا على الوفاء للقدس، فتلك كانت وصية الكرك الأبية: إياكم يا أبنائي أن تخذلوا القدس شقيقة الروح.
احتدمت المعارك واشتدت. لم يغادر محمد كريم الطروانه ورفاقه مواقعهم في "تل الذخيرة" أو ما يسميه الاحتلال "جفعات هشموشت" في حي الشيخ جراح.
على مدار ستة أيام متواصلة قاتلت كتائب وسرايا الجيش العربي الأردني في حزيران 1967 بكل بطولة وشجاعة. دارت المعارك على كل متر في القدس و"اللطرون" و"باب الواد" و"جبل المكبر" و"تل الرادار" و"تل الشيخ عبد العزيز" و"تل النبي صموئيل" و"الشيخ جراح" و"المطَّلع" و" وتلة مار الياس" و"جبل ابو غنيم" ونابلس وجنين وطولكرم والخليل. قاتل الرجال على أسوار القدس، وبواباتها وفي أحيائها حتى آخر رجل وآخر طلقة.
بعد ستة أيام من القتال، صمتت البنادق. عاد من بقي حيا من الجنود ومضوا شرقا. الكثيرون لم يعودوا، بقوا هنا مزروعين في أرض فلسطين التي احتضنتهم بكل حنانها ودفئها وحبها المطلق. كيف لا يكون ذلك وقد أعطاها أولئك الجنود الشباب أعمارهم الفتية كأعواد الريحان والزعتر.
قبل 54 عاما عاد من بقي حيا من الجنود إلى أمهاتهم ومدنهم وقراهم في شرق الأردن، لكن محمد كريم الطراونة وغيره الكثيرون لم يعودوا.
سالت من عين أم محمد دمعة وهي ترقب الأفق الغربي، علّ محمد يهل عليها ذات صباح أو مساء.. أنتظرته طويلا طويلا.
54 عاما ومحمد يحضن بندقيته وساعته وحربته وبعض الرصاص والخراطيش الفارغة وينتظر.
أربعة وخمسون مطرا وهو ينتظر.
لا أحد يعرف ماذا كان يدور في ذهن محمد الطراونة كل هذه السنين وهو ينتظر في خندقه في تل الذخيرة، . لكنه كل عام كان يرسل الحنّون من أعماق الأرض ليزهر في عيون القدس وكأنه يرسل رسالة إلى القدس وإلى مدينته الكرك: أنا هنا لم أغادر موقعي فاقرؤوا أمي وأهلي السلام.
54 عاما ومحمد كريم الطراونة يأتيه هدير الأرض وناسها في الأعالي... وكأني بأهل الشيخ جراح وهم ينهضون للدفاع عن حيهم ومدينتهم يستمدون القوة من أولئك الرجال المغروسين في الأعماق. يسمع محمد من خندقه أصوات المواجهات المستمرة في حي الشيخ جراح، يشد على بندقيته ويبتسم.
اليوم نهض محمد كريم الطراونة من خندقه، حمل بندقيته ورصاصاته وأشياءه الصغيرة وصعد، وقف على ذروة القدس ألقى عليها تحية الصباح والحياة. أضاء وجهه وهو وهمس: القدس تستحق كل هذا وأبعد، لم يكن موتي عبثا بل هو هو الأعلى والأجمل.
وقف محمد كالوعد في سماء القدس وآفاقها، وراح يتابع غضب القدس وعنادها في الشيخ جراح وباب العامود. فغمرت روحه فرحة عارمة. وقال: الآن سأعود إلى الكرك، أعود إليها بجبين عال كما جبالها الشامخات.
لشهيد القدس، شهيد فلسطين الجندي في الجيش العربي الأردني البطل محمد كريم الطراونة ولكل شهداء الجيش العربي الأردني وكل الشهداء المجد والخلود.
لأهله لمدينته لأصدقائه وأقربائه العزة والكرامة.
أما القدس فستبقى تتفاخر بمحمد الطراونة الذي جاءها من الكرك كعصفور الشمس وأعطاها عمره دون أن يتردد لحظة واحده.