تحدّيات ورهانات مشروع فيلم «الأمير»

{clean_title}
الشريط الإخباري :  
من حيث المبدأ، الخبر أثلج كثيراً صدور محبي الأمير والسينما. فقد أتى من أعلى هيئة وطنية في الجزائر، مما يضمن له الجدية والمسؤولية، في غياب شبه كلي لوزارة الثقافة التي لم يعد لها أي وجود منذ عشرات السنين. المشكلة هي أنه في مثل هذه الحالات، لا يكفي التزام الدولة بتحقيق أي مشروع لينجح، الكثير منها ظل معلقاً حتى مسه النسيان. فالرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، أخذ المسألة عل عاتقه دون أن يتمكن من تحقيق أي شيء مهم في موضوع الأمير. حتى المشروع الذي نشط في فترته، فشل منذ البداية. المخرج شارل بورنيت، ليس من الصنف الأول من المخرجين الكبار. والبطل، الشاب الموهوب صالح بكري، لا يعرفه أحد بالنسبة للسينما العالمية. وخرب المشروع بعد أن خسرت الجزائر أكثر من 175 مليون دولار، حولت لشركة الإنتاج في أمريكا سينما ليبر ستوديو، من الطرف الجزائري. قبل أن يصرح وزير الثقافة الذي خلف سالفته ليقول بأن الضعف كان في السيناريو (كتبه زعيم خنشلاوي) والكل يعرف لماذا ركز سعادة الوزير وقتها في المساءلة البرلمانية على السيناريو فقط. والكل كانت عينه على 200 مليار سنتيم التي رصدتها الدولة لإنجاز هذا المشروع الذي يجسد الفشل الذريع في التسيير. العبث الذي صاحب فيلم الأمير يعكس بشكل واضح عقلية النهب المبرمج، ويستحق العديد من المسؤولين والوزراء المساءلة القضائية. لم ينجز من المشروع أي شيء، إلا سيناريوهات مرمية في المكاتب الباردة، وألبسة فصلت للفيلم وكلفت المليارات ثم رميت في الزوايا الرطبة حتى علاها العفن. ولم يكن تعاقب مختلف وزارات الثقافة إلا فرصة لمزيد من التبذير والنهب لدرجة أن تم الاستيلاء على فكرة الفيلم وتجييرها لما يخدم مصالح الوزير وحاشيته التي تحتسب بأمره، وتنتظر تلقي حصصها الريعية بأسمائها الحقيقية، أو بأسمائها المستعارة. وتم تطفيش كل المخرجين الذين كانوا قريبين من المشروع، لخضر حامينا، مصطفى العقاد، أوليفر ستون، كوستا غافراس، ريدلي سكوت. لهذا، سيكون من الأجدى تجفيف السبخة العفنة التي أغرق فيها الأمير، وأغرقت فيها ملايين الدولارات بلا جدوى. فترات الطفرة المالية التي عاشتها البلاد جعلت جوقة السراق تتكاثر، ولم يعد فيلم الأمير إلا قناة للنهب.
قد تكون النية طيبة هذه المرة، لكن من حيث الفعل ستصطدم بسلسلة من التعقيدات. من ناحية السيناريو أولاً: أي أمير نريد؟ هل نريد أميراً كما ترسمه المدرسة الجزائرية بعد أن قصت أجنحته وحولته إلى محارب خارق بحصانه الذي لا يكل ولا يتعب، لا يختلف كثيراً عن أفلام الويسترن؟ أم نريد أميراً إسلامياً يخوض حروباً ضد المستعمر النصراني؟ أم نريد أميراً آخر، أوسع وأكثر قوة، ببعد إنساني أعمق، مدافعاً عن بعده الحضاري المتنور، ومنفتحاً على ثورة صناعية كانت قد غزت العالم ودخل غمارها، ميالاً إلى حوار الأديان والحضارات بدل الحروب؟ كيف يعبّر السيناريو عن تسامح الأمير تجاه المختلف، وتدخله العسكري لحماية مسيحيي الشرق في الحرب الأهلية في سورية في 1860. فقد أنقذ خلالها أكثر من 15 ألف مسيحي من هلاك أكيد، مقدماً بذلك درساً في التسامح الديني، وصورة نموذجية عن المسلم ذي الروح الواسعة، جلبت إليها أنظار الدول ورؤساء وملوك العالم، والحركات الثقافية والسياسية والعلمانية العالمية، من بين هؤلاء الحركة الماسونية التي يجب النظر إليها في زمانها ووقتها، وليس بمنظور اليوم. علماً أن الأمير ابتعد عنها بعد وفاة نابليون الثالث الذي ظل يدين له بحريته. دون نسيان منفاه في تركيا، بحثاً عن أرض قريبة من قلبه وقناعاته الدينية، ذهب إلى بوصا، لكنه بعد أقل من سنة وجدها أرضاً مغلقة على الدوغما العثمانية، بالمعنى العرقي، فارتحل إلى دمشق، وهناك رفض أن يظل منعزلاً، فأصبح فاعلاً في المجتمع السوري بدروسه في الجامع الأموي، وفي الحركة النضالية القومية، فكان الثمن غالياً من خلال المضايقات وفقدانه لأحد أبنائه، الأمير عمر، الذي شنق في المرجة بوصفه معادياً للتتريك ولطغيان جمال باشا السفاح، قبل أن يتفرغ الأمير للعلم والثقافة والتأليف والصوفية التي أصبحت مسلكه في الحياة، محتذياً في ذلك طريق شيخه الأكبر، ابن عربي، ودون نسيان حواراته الإنسانية الكبيرة حول الحرية وحقوق الإنسان والعلاقة بالطبيعة والحيوان.
من المؤكد، ستحاول الرقابة المتخلفة والجامدة أن تحجم من امتداد الأمير عبد القادر لأسباب سياسية أو دينية خارج سياقات عصره، وأن تصنّع أميراً صغيراً ومغلقاً على نفسه، لترضي رؤيتها الضيقة. وهذه ربما واحدة من المعوقات والمضار التي ستقتل المشروع في البيضة كما دائماً. لا بد من تحييد سدنتها ومنظماتها، والثقة في المثقف الجزائري وفي حرفيته، وفي قدراته على الحفاظ على جزائرية الأمير ووطنيته وإنسانيته. على الرقيب الصغير أن يتحمل قليلاً حرية الأمير التي امتاز بها طوال القرن التاسع عشر. رؤية الرقيب أقل بكثير من رؤية أمير اخترق زمنه كلياً وعاش عصره بامتلاء.
سؤال كبير آخر، ضحكت وأنا أقرأ إحدى المقالات أنهم عثروا أخيراً على ممثل يشبه الأمير. وكأن المشكلة الكبرى تكمن في الشبه؟ أستغرب من هذا المنطق الغريب الذي ما يزال حبيس سينما الخمسينيات. لقد أصبحت السينما اليوم صناعة، أي أن كل شيء يخضع لسلسلة من القواعد الأساسية. هل كان الممثل بين كينغسلي، الذي أدى دور غاندي يشبه غاندي في الأصل؟ الماكياج والحرفية صنعا منه شخصية شبيهة للدور الذي اعتنقه قبل أن يمثله. الممثل الذي أدى دور هتلر برونو غانز، في السقوط، هل كان يشبه هتلر؟ لقد أعيد تصنيع وجهه في المخابر حتى أصبح متطابقاً أو كاد، ثم هل كان أنطوني كوين يشبه عمر المختار أو حمزة في الرسالة؟ طبعاً لا، الوسائل الحديثة جعلته كذلك. الرهان الكبير ليس على الشبيه، لكن على الممثل العالمي القادر على إعلاء الفيلم والارتقاء به نحو العالمية، هذا هو الأساس. نفهم اليوم جيداً لماذا كان ينوي المرحوم مصطفى العقاد دعوة شين كونري لأداء دور الأمير في مشروعه.
السؤال الأساسي والأكثر قلقاً ربما، والأهم في سياق هذا المشروع، هو هل نريد فيلماً وطنياً «بالزمارة والغايطة والبندير» ينتهي، كالعادة، في العلب بعد عروض داخلية محدودة وبائسة، في غياب مفجع لتفعيل قاعات السينما التي نهبت أو دمرت منذ الاستقلال؟ أم نريد فيلماً عالمياً بمستوى شخصية الأمير الإنسانية الواسعة، يعرض في القاعات العالمية، ويشارك في المهرجانات السينمائية الدولية الكبيرة، وهذا يقتضي حتمية المرور عبر كاستينغ عالمي: بخاصة المخرج والممثل الرئيسي. دون ذلك، ستنتج الجزائر فيلمها عن الأمير سيعرض عبر القنوات الوطنية بمناسبتي مبايعة الأمير تحت الدردارة وذكرى وفاته وولادته، ثم يعاد من جديد للنوم في العلب المظلمة، كما كل الإنتاج السينماتوغرافي الوطني باستثناء «معركة الجزائر» لبونتي كورفو، و»سنوات الجمر» للخضر حامينا.
أسئلة قد تكون مقلقة، لكنها نابعة من سلسلة من التجارب الفاشلة، والإحباطات المتكررة حول فيلم الأمير، التي لا نريدها أن تتكرر أو يعاد إنتاجها. الأمير يستحق هذا التكريم، فهو أكثر من شخصية وطنية، قيمة خالدة، أفق مفتوح على إنسانية أوسع وأرحب. هل يستطيع القيمون على المشروع رفع هذا التحدي؟
واسيني الاعرج
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences