الحقيقة: معناها وكيف يجب أن نفهمها
الشريط الإخباري :
د. محمد عبد العزيز ربيع
حين ينظر أحدنا إلى صورة شيء ما، فإنه لا يرى الصورة المعنية بكاملها، وإنما يرى جانبا واحدا منها؛ الأمر الذي يعني أن الحقيقة التي يبحث عنها كل إنسان تبقى غائبة عنا مهما فعلنا. مع ذلك، الحقيقة هي كل شيء يؤمن بوجوده أو كماله أو صدقيته شخص واحد في العالم على الأقل. لكن هذا الشيء أو الأمر هو حقيقة بالنسبة للشخص الذي يؤمن بها، وليس لأي شخص آخر. وما دام كل منا يرى جانبا واحدا من كل صورة وقول وحدث، فإن علينا، بناء على إدراكنا هذا، أن نحترم وجهة نظر غيرنا من الناس وأن لا نجادلهم كثيرا بهدف اقناعهم بوجهة نظرنا، لأن الجانب الذي يراه غيرنا من كل شيء وحدث وقضية قد يكون أقرب إلى الحقيقة من رؤيتنا للشيء نفسه. من ناحية أخرى، علينا أن ندرك أن ما كل ما يدعيه شخص بأنه حقيقة هو بالفعل حقيقة بالنسبة له ولكن ليس لكافة الناس، لأن غيره قد يرى الشيء نفسه من زاوية ثانية، وقد يكون لديه معلومات عنها اكثر منه أو أقل، ما يجعل حُكم كل شخص ملزم له وحده وقناعاته خاصة به.
إذن، كيف يمكن لنا أن نتواصل مع غيرنا من الناس، ونتحاور معهم، ونحاول أن نتوصل إلى تفاهمات ومواقف مشتركة؟ هذا سؤال ليس من السهل الإجابة عليه بصورة مقنعة لكل إنسان، إذ لو كان لدينا أدوات ومبادئ متفق عليها من قبل مختلف الأفراد والجماعات والشعوب لما شهد العالم ما شهده في الماضي ويشهده في الحاضر من صراع وحروب دامية وجرائم. مع ذلك، لقد نجح البشر عبر التاريخ في التوصل إلى مبادئ وقيم وقناعات مشتركة استخدموها كأسس للتحاور والتفاهم بشأن قضايا كثيرة، والاختلاف أيضا بشأن قضايا كثيرة أخرى. لكن حين نتكلم عن مبادئ وقيم وقناعات مشتركة، فإننا نتكلم عن أمور تنبع من ثقافات ينتمي إليها البعض من الجماعات والشعوب، ولا ينتمي إليها الآخرون. وهذا يجعل المبادئ والقيم والقناعات والمعتقدات خاصة وليست عامة، تُلزم المؤمنين بها ولا تلزم غيرهم. لماذا لا تلزم المبادئ والقيم كافة البشر؟ لأن ما قد يكون مقبولا وملزما بالنسبة لبعض الأفراد والجماعات، لا يكون بالضرورة ملزما لغيرها من جماعات وشعوب أخرى.
ويمكن القول أن ما نطلق عليه القيم والتقاليد والعادات والبديهيات والحتميات والمعتقدات، وذلك إلى جانب المصالح المشتركة، كانت وما تزال الأسس الرئيسية التي تُوجه سلوكيات الناس ومواقفهم من بعضهم البعض وتساعدهم على حل الكثير من الخلافات التي تفرقهم؛ كما تمكنهم من اعتبار واحدة أو أكثر منها قواسم مشتركة للتعاون وخلق ثقة متبادلة فيما بينهم على المدى الطويل. وحتى المشرع كان عليه أن يستهدي بهذه الأمور في كتابة القوانين التي تتعامل مع مختلف الإشكاليات المجتمعية، وتقوم بتنظيم العلاقات بين الناس وبينهم وبين الدولة على أسس من العدالة. لكن هذه الأمور، وعلى الرغم من أهميتها، تم تجاوز معظمها، إذ جاءت هيئة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها والمواثيق الدولية لتنص على وجود قيم إنسانية مشتركة وحقوق فردية وجماعية عالمية، وأن تلك القيم والحقوق تحظى بالأولوية على غيرها من تقاليد اجتماعية وقيم ثقافية ومعتقدات قد تكون جذورها دينية أو عُرفية كما هو الحال بالنسبة للمجتمعات القبلية.
مع ذلك، لا يوجد لدينا تعريف محدد لمعاني كلمات قيم وتقاليد وبديهيات وحتميات ومعتقدات متفق عليه داخل المجتمع الواحد ولا بين المجتمعات الإنسانية المتقاربة والمتباعدة على السواء. وحين نتكلم عن التقارب والتباعد لا نعني بذلك التقارب والتباعد من الناحية الجغرافية فقط، لأن معظم الحدود الجغرافية والموانع الطبيعية لم تعد قادرة على تعطيل حركة الناس أو الافكار أو البضائع؛ إذ قامت العولمة الاقتصادية والثقافية والانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بكسر تلك الحواجز جميعا. لذلك كان علينا أن نتكلم عن التقارب والتباعد الحضاري الذي تسبب وما يزال يتسبب في حدوث سوء فهم متبادل بين الأفراد والجماعات والشعوب، ويقود في أحيان كثيرة إلى النزاع والحروب. وهذا تباعد ينبع أصلا من اختلاف الثقافات وتباين انماط الإنتاج وتعارض المصالح والفلسفات المجتمعية.
وعلى سبيل المثال، قادتني دراساتي وتجربتي الحياتية لاكتشاف سلوكا مهما في الغرب عامة وفي أمريكا خاصة أصبح بمثابة جينات ثقافية لا تحتاج إلى تفكير. وهذه جينات يستخدمها الإنسان الغربي للتعامل مع التحديات التي تفرضها الفرص السانحة والمشاكل الطارئة. إذ انطلاقا مما يتمتع به الإنسان في الغرب من وعي علمي وإدراك لمصالحه الخاصة، فإن موقفه من الفرص والأزمات أصبح يقوم على مبدأين أساسيين: «تعظيم الأرباح وتقليل الخسائر»؛ الأمر الذي يعني أنه حين يكون الربح متاحا فإن على الإنسان أو الشركة أن تفعل ما بوسعها كي تحقق أعلى الفوائد الممكنة ضمن الوقت المتاح، وحين تكون الخسارة حتمية فإن عليها أن تفعل كل شيء ممكن لتقليل حجم الخسائر المتوقعة، وذلك دون اعتبار للقيم والمصلحة العامة.
وعلى العموم تتصف الحقيقة في كونها نسبية، وجزئية ومؤقتة في آن واحد، ما يعني أنه ليس هناك حقيقة أزلية يتفق عليها كافة البشر. فالحقيقة نسبية لأنها تخص من يؤمن بها دون غيره من الناس. من ناحية ثانية، الحقيقة جزئية لأنه ليس بإمكان إنسان أن يرى أي شيء مادي او معنوي من كافة الزوايا، حتى الجبل الذي يقف أمامنا شامخا يناطح السحاب لا نرى منه سوى وجها واحدا. وحتى لو دُرنا حوله بسرعة لنلقي نظرة كاملة عليه، فإنه لن يكن باستطاعتنا ان نراه كاملا ونرى العلاقة التي تربط مختلف مكوناته مع بعضها بعضا وتجعله كلا متكاملا. ومن ناحية ثالثة، كل حقيقة يدعيها إنسان أو مجموعة من البشر هي حقيقة مؤقتة من الممكن أن يأتي دين كما حدث في الماضي لينفي تلك الحقيقة ويحل حقيقة اخرى محلها كما فعل الإسلام، كما أن من الممكن أن يأتي العلم لينفيها تماما. وعلى سبيل المثال كان البشر وحتى القرن السابع عشر يعتقدون أن الأرض هي مركز الكون، وأنها مسطحة، وأن الشمس تدور حولها، فجاء العلم ليثبت أن الأرض بيضاوية وليست مسطحة، وأنها لا تمثل من الكون سوى جزء لا يكاد يرى مقارنة بحجم الكون الذي يحوي على بلايين الكواكب والمجرات، وأن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس.
وهذا يعني ببساطة أن فهمنا لخصائص الحقيقة هذه تملي علينا أن نتواضع كثيرا، وأن يعتبر كل منا أن ما يؤمن به بأنه حقيقة قد لا يكون كذلك، وبالتالي لا يجوز له أن يفرض وجهة نظره على غيره من البشر حتى وإن كان الأمر يتعلق بعقيدة دينية أوعقائد فلسفية دنيوية.