المبنى والمعنى في المجموعة القصصية (البحث عن مساحة) لتيسير نظمي
الشريط الإخباري :
بقلم: أُسَيْد الحوتري
.
كثيرة هي العوامل التي تجعل من نص ما نصا أدبيا، ولعل أبرز هذه العوامل تناغم مبنى النص مع معناه، أو شكله مع مضمونه. هذا التناغم ليس بالأمر اليسير، ويغفل عنه الكثير، بل قد لا يستطيعونه، فنجد نصوصا اشتغل كتابها على مضمونها كثيرا ولكنهم لم ينجحوا في نسج علاقة تناغم وانسجام بين شكل النص ومضمونه. كما أن هنالك نصوصا أخرى ينحت كتابها شكلها نحتا ولكن يكون هذا الجهد المضني على حساب مضمون النص والذي يكون في الغالب مضمونا(كلاسيكيا) من حيث الثيمة والأحداث والشخصيات والزمكانية.
أما في (البحث عن مساحة) لتيسير نظمي فالوضع جد مختلف. (البحث عن مساحة) من إصدارات حركة إبداع لعام (2019)، وهي مجموعة قصصية كبيرة تضم بين طياتها خمس كتب كل كتاب يمثل مجموعة قصصية: الكتاب الأول (خارطة للموتى/ خارطة للوطن)، الكتاب الثاني (لغة للطيور بلا أجنحة)، الكتاب الثالث (البحث عن مساحة)، الكتاب الرابع (الدهس)، الكتاب الخامس (وليمة وحرير وعش العصافير). تمتاز هذه المجموعة القصصية بالتناغم والانسجام بين مضمون النص وشكله، ولقد اخترت من هذه المجموعة القصصية الكبيرة ثلاثة قصص عبر تحليلها ستتجلى الطريقة التي جعل فيها القاص شكل النص منسجما مع مضمونه.
القصة الأولى تحمل عنوان (الصغير يرسم تلا)، وهي قصة تراوح بين الواقعية والرمزية، مضمونها الظاهر: الرسم. تلميذ صغير يطلب الأستاذ منه أن يرسم جبلا على لوح الصف لينقذ الفقراء من الطوفان، فيرسم تلا لأنه قصير، أما الجبل فبحاجة إلى رجل صاحب ظل طويل. وفي أجواء الرسم هذه التي تكون بالكلمات تارة وبالطبشور تارة أخرى، نجد بأن تيسير نظمي قد جعل شكل القصة ينسجم مع مضمونها وذلك برسم مستطيلين داخل نص القصة. مستطيلان يمثلان لوحين: اللوح الأول موجود في الصفحة الأولى من القصة وكتب في وسطه: "قصة نوح" (البحث عن مساحة: 55). أما اللوح الثاني فهو موجود في الصفحة الثانية من القصة وقد كتب في أسفله"وصل طارق بن زياد/ أحرق السفن/ حدود الدولة الإسلامية الأندلس/" (نفس المرجع: 56). فكما أن مضمون القصة يدور حول الرسم، قام القاص برسم لوحين كانا من شكل النص. ومن جانب آخر، بدت قصة (الصغير يرسم تلا) وكأنها صورة (نيغاتيف) لكاريكاتير ناجي العلي الذي يرسم ويعلق بكلماته على الرسم، ويكون حنظلة الشاهد الأبدي على ما رسم؛ في حين أن تيسير نظمي عكس ما يقوم به ناجي العلي، فقد كتب وأضاف إلى نصه رسما ترك فيه القارئ ليقوم مقام حنظلة، ليبقى هذا القارئ الشاهد الأبدي على بوح النص. وهكذا قدم القاص مضمونا عن الرسم وشكلا للنص احتوى على رسم أيضا، وهنا يكمن الانسجام بين المضمون والشكل، بين مبنى النص ومعناه.
هذا ويقدم تيسير نظمي قصة قصيرة أخرى بعنوان (في الليل يَصلب منقاري)، وهي مهداة للشاعر محمد الأسعد كما ذُيّل أسفل العنوان. القصة حوار بين اثنين، ورثاء للوضع المأساوي القائم: الضعف، والفقر والجهل، والقتل، والخذلان والقمع. عند النظر إلى هذه القصة دون قراءتها نرى أن شكلها يشبه شكل قصيدة الشعر الحر. لقد غاب السرد عن القصة إلا ما ندر، واكتسح الحوار القصير صفار الصفحات، وتقطع هذا الحوارَ قصيدةُ شعر حر من أصل النص تقول:
" حاولت رؤى، حاولت امرأة، حاولت قميصا،
حاولت الأشياء الأسماء
حاولت عينيها..."(نفس المرجع: 74)
وتمتد القصيدة حتى تصل إلى:
"والسياب يغرق أحزان/ وشناشيل وجدران
حاولت.." (نفس المرجع: 75)
وأخيرا تنتهي القصة بسرد شعري أو بشعر منثور. تبدأ الفقرة الأخيرة من القصة بهذه الجمل" في طريقي إلى البيت، كنت وحيدا. سأنام مع العصافير الصغيرة، لكن أجنحتي لا بد أن تنمو. أن تنمو تنمو تنمو تنمو في الليل. كالطير الجارح لا بد لا بد لا بد..." (نفس المرجع: 82). وهنا نلاحظ مرة أخرى كيف أن شكل النص الذي غلبت عليه اللمسات الشعرية قد تأثر بمضمونه والذي هو رثاء للوضع القائم. وهكذا قدم تيسير نظمي قصة جعل شكلها يشبه شكل قصيدة الشعر الحر، ثم أودع بين جنبات هذه القصة قصيدةَ شعر حر، وأخيرا أضفى صبغة شعرية على نصها السردي، وعلى اسمها كذلك (في الليل يَصلب منقاري)، وأراد القاص من كل ما سبق أن تستحيل قصة (في الليل يَصلب منقاري) إلى قصيدة رثاء للوضع العام، وأن تتحول إلى لغة شعرية يتلذذ بتذوقها الشاعر محمد الأسعد الذي أهديت له القصة.
وفي قصته (البحث عن مساحة) والتي سردت حكاية فقدان البيت، والتشرد، واللجوء، والتي ترمز بشكل معقول إلى ضياع الوطن، نجد أن شكل هذه القصة القصيرة أخذ شكل رواية طويلة من خمسة فصول. فاللجوء يستحيل أن يكون بأي حال من الأحوال قصة قصيرة حتى لو وسعته قصة. إن اللجوء دون شك حدث جلل ورواية طويلة لا تنهي إلا بالعودة إلى البيت وإلى الوطن. فوجود هذه الفصول الخمسة في القصة، والتي هي من شكل النص، يشير إلى أن القصة قد ارتدت ثوب الرواية وأخذت شكلها، فها هي مقسمة كما الرواية إلى عدة فصول. هذا وتؤكد عناوين هذه الفصول أيضا على أن قصة (البحث عن مساحة): البحث عن بيت ووطن، ما هي إلا رواية طويلة جدا كانت بدايتها منذ الأزل وهي مستمرة إلى ساعة السرد وإلى ما بعد السرد. فالعنوان الأول (وسعت سريره الأرض والصدور) إشارة إلى آية الكرسي والتي تتحدث عن الخالق عز وجل وعن كرسيه (وسع كرسيه السموات والأرض)[سورة البقرة:255]، وكأن هذا العنوان يشير إلى أن هذه القصة طويلة جدا وقديمة قِدَم الخالق وأوائل الخلق. أما الفصل الثاني فيحمل اسم (هبوط الوحي) وفيه إشارة إلى الأزمنة القديمة التي نزل فيها الوحي بالرسالات، وهذا تأكيد على أن هذه القصة طويلة بطول الرواية فقد امتدت منذ بداية الخلق إلى فترة الرسالات. وتمتد هذه القصة المرتدية ثوب الرواية من فترة الرسالة السماوية الأخيرة حتى تصل إلى الفصل الذي يحمل اسم (النكسة) والذي يستحضر حرب النكسة عام (1967) والتي أصاب فيها الفلسطينيين ما أصابهم من خسارة متكررة للبيت والوطن، والتي عانوا فيها من التشرد واللجوء. وتمر السنون وتمتد القصة لتصل إلى عنوان (شعنون يبدع ويكتشف ويفكر)، فها هو أحد الفلسطينيين الذين أفقدته النكسة بيته ووطنه يجد مكانا يلجأ إليه وينتبه إلى"وجود حيز يتسع لبعض صوره...فرحة انتصار بسيط غطت على هزائم ثلاثين سنة من عمره" (نفس المرجع: 108)، ويمر الوقت من جديد وتمتد القصة حتى تصل إلى الفصل الخامس والذي يحمل عنوان (الأخلاق العامة تحتل المساحة)، فيفقد هذا الفلسطيني المساحة التي اعتقد أنها باتت ملكه ليعلق فيها صورة من يحب. وهكذا أكدت العناوين الخمسة بشكلها ومضمونها بأن القصة القصيرة (البحث عن مساحة) هي في الأصل رواية طويلة جدا امتدت منذ بدء الخليقة حتى الاحتلال الكامل لكل المساحة، فلمّا يزل شعنون، الشخصية الرئيسة في القصة، لاجئا منذ الأزل، حتى أنه وصل إلى الزمن الذي لم يعد له فيه أي مساحة يمكن أن يعلق عليها صورة من يحب. وهكذا أستطاع القاص عبر تقطيع نص القصة القصيرة إلى خمسة أقسام معنونة، أن يوحي بأن هذه الأقسام ما هي إلا خمسة فصول، فأظهر القصة القصيرة بمظهر الرواية ليتناغم شكل القصة مع موضوعها: خسارة البيت والوطن والتشرد واللجوء، هذا الموضوع الكبير الطويل الذي تعجز قصة قصيرة عن سرده، ولكن تقدمه الرواية بشكل أدق وأشمل.
أما بالنسبة للقصة التي تحمل اسم (أحمد حسن) والمهداة للشاعر الفلسطيني محمود درويش، فتسرد موت رجل يدعى أحمد حسن أثناء بحثه عن بطاقة عمله. لم يستخدم تيسير نظمي هذه المرة أبيات من الشعر في قصته كما استخدمها عندما أهدى قصة (في الليل يصلب منقاري) للشاعر محمد الأسعد، ولم يكن اسم القصة (أحمد حسن) شعريا كما هو الحال في قصة (في الليل يصلب منقاري) المهداة إلى محمد الأسعد، كما أن شكل القصة لم يشبه شكل القصيدة مطلقا هذه المرة، فلقد احتل السرد كل أجزاء القصة التي خلت من أي حوار. مع ذلك فقد كرر تيسير نظمي استخدام الشعرية في هذه القصة الجديدة ليتناغم شكلها مع مضمونها. ولقد جعلت الشعرية نص قصة (أحمد حسن)، والذي يرثي الفقيد أحمد حسن، يقترب من صوت قصيدة الرثاء. وهذه الشعرية التي سيطرت على شكل النص انسجمت تماما مع كون هذا النص مُهدى لشاعر، والذي هو بالطبع محمود درويش كما هو ظاهر أسفل اسم القصة، "(إلى محمود درويش)" (نفس المرجع: 141)، فالشعر لغة الشعراء التي يحسنون فهمها.
لقد اصطبغت قصة (أحمد حسن) بصبغة شعرية مسيطرة كما تم بيانه سابقا، وكثيرة هي الجمل التي أكدت شعرية النص، ومنها "السواعد والوجوه السمراء المقدوحة بالشمس مبعثرة في الحفر وفوقها على طرف الشارع"(نفس المرجع: 141)، "قامته انحنت قبل مائة عام، قبل مئات"(نفس المرجع: 141)، "أحمد حسن في الأرض. أحمد حسن القطع يتحول. أحمد حسن على مقربة من ثروات الأرض. أحمد حسن القطع في الإسطوانات. في الجرافات. في الميناء. بعينين نصف بائستين. بساعد معروق بالتاريخ. بالتواريخ المعروقة بالهزائم، المعروقة بالقهر. المعروقة بالمذلة. المذلة تزاحم الحشرات. الحشرات تحتج على هذه المزاحمة المستمرة. وتريد وطنا بلا ذل منتشر" (نفس المرجع: 142).
كما أن المتأمل في نفس الجمل التي في الأعلى، سيجد بأنها، حالها حال كل نص القصة، تعج بجمل قصيرة مكونة من كلمتين أول ثلاث. مع أنه كان من الممكن أن يتم استخدام الفواصل بدلا عن النقاط التي أنهت هذه الجمل. كان من الممكن أن يكتب تيسير نظمي النص بهذا الشكل (أحمد حسن القطع في الإسطوانات، في الجرافات، في الميناء، بعينين نصف بائستين، بساعد معروق بالتاريخ، بالتواريخ المعروقة بالهزائم، المعروقة بالقهر، المعروقة بالمذلة، المذلة تزاحم الحشرات...). مع ذلك اختار نظمي أن لا يستخدم الفواصل التي تشير إلى عطف عبارات على أخرى وإلحاقها بها، واختار عن سابق إصرار استخدام النقاط لكي ويُقطّع النص إلى جمل صغيرة، كما تقطّع أحمد حسن قطعا قطعا،"غادرنا قطعا قطعا بطريق البر والبحر...أحمد حسن القطع الذي...لملم قطعه، الساق المبتورة، اليد، الأحشاء، الرأس المفلوق..."(نفس المرجع: 142-143)، وبهذه الطريقة قطّع النص إلى قطع صغيرة لينسجم مع مضمون النص الذي يروي قصة أحمد حسن الذي "غادرنا قطعا قطعا" (نفس المرجع: 142).
كما أن نص القصة المكونة من فقرتين فقط يسترعي انتباه المتأمل بها. فليس من المألوف أبدا أن تمتد قصة في أربع صفحات وتكون مكونة من فقرتين لا غير. ويبدو أن هذا الشكل المكون من فقرتين يحاكي اسم القصة واسم شخصيتها الرئيسة (أحمد حسن). وهكذا يتناغم شكل القصة المكون من فقرتين فقط مع اسمها ومع اسم شخصيتها الرئيسة المكونة من مقطعين فقط: أحمد حسن.
ختاما وبعد تحليل ثلاث قصص من المجموعة القصصية الكبيرة ووالتي تحمل اسم (البحث عن مساحة) يتضح بأن تيسير نظمي قد اشتغل بمهارة على شقي النص الأدبي: المبنى والمعنى أو الشكل والمضمون، وجعلهما في حالة انسجام وتناغم وتكامل، وهذه من المهارات التي تميز النص الغث من النص السمين والرخيص من الثمين.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن تيسير نظمي كاتب أردني من مواليد سيلة الظهر، فلسطين عام 1952، وهو قامة موسوعية، فهو قاص، وروائي، وناقد، وصحفي سابق، ومترجم. ويحمل شهادة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة الكويت التي تخرج منها عام 1975، ومن أعماله القصصية كتاب: (البحث عن مساحة) 2019، والمشتمل على خمس مجموعات قصصية كتبت في فترات زمنية مختلفة وسبق ذكرها. كما وله مجموعة قصصية تحمل اسم (رجل الثلج) ، ورواية (وقائع ليلة السحر في وادي رم) 2004، وكتاب (عودة القطار إلى الخريطة) الذي يحتوى على أبحاث، ومقالات نقدية، وحوارات صحفية. هذا وقد ترجم تيسير نظمي عدة كتب منها: (مذكرات موشيه شاريت) 1980، ورواية (المجتثون): يوميات منفى فلسطيني، تأليف فواز تركي 1984، وكتاب (القيصر الجديد) تأليف الكاتب (ستيفن لي مايرنز) 2022.