رواية "احترَقَتْ لتُضيءَ" للأسيرة المحرَّرة نادية الخيَّاط (حياة في مهبِّ السؤال)
الشريط الإخباري :
سليم النجار
توطئة
نادية الخياط من مواليد العام ١٩٥٨ ومن سكان مدينة رام الله، تحمل درجة البكالوريوس في القانون، حُكمت مؤبد وعشرون عاماً، وأُفرج عنها عام ١٩٨٣ في عملية تبادل الأسرى، أُبعدت للأردن، حيث تم إبعاد جميع الأسرى والأسيرات خارج الوطن، بقيت ثلاثة عشر عاماً في الأردن ثم عادت إلى أرض الوطن بعد اتفاقية أوسلو عام ١٩٩٦، عملت في وزارة الاقتصاد الوطني، وهي متقاعدة حالياً.
لعلَّه من الأفضل التسليم بأنَّ سر الخصب والحيوية اللتين تطفح بهما إبداعات نادية الخيَّاط في روايتها "احترَقَتْ لتُضيءَ" يكمن بالذات في الانصهار المُحكَم لشعلة هذه العناصر والمصادر المتعددة، واتِّساع أفقها على وحدةٍ فنِّيةٍ متماسكة ومتناغمة بشكل يدعو للدهشة والألم!
أمَّا المفتاح لفهم هذه المسألة بما فيها من قِيم وجماليَّات فيكمن في انفتاحِ وتلقائيَّةِ القدرات التي تستنبطها الخيَّاط بمهارة هندسيَّة مبتكرة، للدخول والخروج من حياة المعتقل الإسرائيلي مِن وإلى متاهات التقطُّع والتقاطع والالتقاء لسكك نسيجها الداخلي: (ممنوع احتضان الزوَّار وإلا تعرضت للعقوبة.
- ممنوع ملاسة أحد.
- ممنوع التحرُّك عن المقعد.
وأثناء ترديدها للممنوعات قفز قلبي نحو وجه أمي، أول من يطلُّ من الباب الخارجي لغرفة الزيارة، أمي لا تلبس السواد على أخي الشهيد، ترتدي ذلك الثوب الأنيق من تنورة وجاكيت، وفاتح اللون ما بين البيج والأبيض، ويطلُّ بعدها وجه أبي المبتسم رغم مرارة الموقف ص١٥).
لدى نادية الخيَّاط إذن قدرات ومواهب تسمح لها بالالتفاف على عناصر هذه المصادر لتطويع مفرداتها السيريَّة المختلفة، لتنصهر على يديها لنسيجٍ مفتوحٍ على رؤيتها الخاصَّة، التي تخرج بها عن مألوف التوقُّعات والتنبُّؤات الكلاسيكيَّة والتقليديَّة التي يُؤمنُ البعض (مخطئاً) أنَّ مجراها في عملية التأليف ينحصر ضمن اتجاهٍ واحد، أو أنَّ هويَّتها ثابتة لا تحتمل إلَّا مفهوماً صنميَّاً مغلق الأفق!! (مرَّت الأيَّام والشهور وكَبُرَتْ ثائرةً أمام أعيننا وكانت طفلة لخمسة وعشرين أمَّاً ، بكل تفاصيل حياتها، نلاطفها، ندلِّلُها، نعلِّمها، نربِّيها كأسيرة صغيرة وليس كطفلة، نطقت كلماتها الأولى بطلاقة. عالمها وكلماتها محصورة في هذا المكان المغلق، تحاول مدَّ بصرها فيصطدم بحائطٍ متعفنٍ أو سورٍ عالٍ، أو أسلاكٍ شائكة، لا تتلفَّظ إلَّا الكلمات التي اعتادت سماعها منَّا أو من السجَّانات، لا تميُّز سوى أصوات الكبار مِمَّن حولها، صوت السلاسل ومفاتيح السجَّانة، أصوات الأبواب تفتح وتغلق ص١٠٠- ١٠١).
لقد فتحت نادية الخيَّاط أشرعتها لتُبحر في عوالم صوتيَّة مختلفة ومتعدّدة، لم تقطع مع أيِّ مصدرٍ ولم تُغلق أيضاً أيَّ بابٍ ولم تسبح عكس أيِّ تيار: (صحوتُ على صوت الشرطي من الطاقة الصغيرة في الباب المصفَّح للزنزانة وقد غطَّى وجهه كل الطاقة، نهضتُ متثاقلة، ناولني قطعة من الخبز محشو فيها بيضة مسلوقة غير مقشَّرة وشرحة بندورة وحبتي زيتون، أسرعتُ لتناولها وتذكرتُ أنَّني لم أذُق الطعام لأكثر من ثلاثين ساعة، أخبرني أنْ أُسرع في تجهيز نفسي للتحقيق ص٣٨).
بدت دائماً، ومازالت، منفتحة بتحفّظ وبإيجابيَّة، تعرف ماذا تريد وماذا يناسب خامة السرد المفتوح على عالم المعتقل: (- حبسوني لمدِّة ثلاثة أعوام في زنزانة انفرادية في معسكر الجيش لا أعرف موقعه، كنت أتباهى بشعري الطويل الذي اعتنيت به سنوات طوال حتى وصل ركبتيّ ص١٣٣).
ولكن هذا لا يعني أنَّ بعض تلك المسارات السرديَّة استطاعت أن تأسُرَه بصنميَّة إذا ما تقاطعت معها في بناءِ تركيبٍ صوتيٍّ فتحت رؤياها عليه: (وزميلتي ربيحة تصدحُ يوميَّاً بعد العصر بصوتها الرنَّان الجميل بأغاني أم كلثوم، أترنَّم لتلك الأصوات القريبة إلى قلبي والتي تدعمني وتقوِّي عزيمتي على قضاء أيامي لهزم هدف الإدارة من العقوبة وهي عزل المناضلات عن كل ما له علاقة بالإنسانيَّة ص١٢٧).
تماهت نادية الخيَّاط مع فنِّ السماع لتحاكيه بانفتاح، وبدا كأنَّها تزداد صلابّةً وتماسكاً على جذوره كما شعرت- ومازالت- ولم تضع نادية شروطاً في عمليَّة فنِّ السماع وهي تستكشف عوالم أصواتِ الأسيراتِ المختلفة في مساراتها، في بناءٍ سرديٍّ يكشِف ماهيَّة حياتهن داخل المعتقلات الإسرائيلية: (صوتٌ خشنٌ يخلو من الحياة والإنسانيَّة أجفَلنا وسَرق أحلامنا الورديَّة، صوت السجَّانة وهي تنادي: بنوت اوخل، أي "بنات أكل" ص١٥٧).
ورغم كونها مشدودة ميلوديَّاً باتِّجاهٍ دراميّ، أو غالباً ما تكون باتِّجاهِ الكوميديا السوداء (أساساً لا يمكنها إلَّا أن تكون كذلك في مثل هذا المكان) لذلك فإنَّ سرَّ قوَّتها- وقدرتها على التفاعل باتِّجاهِ تطوير نسيجٍ عامٍ لسردِها- يكمن في كونها مناضلة بالأساس، وتختزن داخلها قابليَّةً واسعةً للتحليق: (وفجأة يقومون بإطفاء نور الزنزانة لأعيش عتمة القبر وكأني أدفن حيَّة ص٥٨).
تعاني نادية في تلك العمليَّة الصعبة ولا تأسرها هوية هذا الصوت- صوت السّجان في مطبخ السَّرد، فهذا المطبخ يشترك عادةً في صياغة معادلاته، العقل والقلب، حيث صراع مفتوح على الذاكرة: (في تلك الأيَّام العصيبة جداً وبالتحديد بتاريخ ١٥/ ١٠/ ١٩٨٣ سمعنا أصواتاً غريبة وصوت جلبة قوي من آخر الممر، استخدمنا مرايا المراقبة لنعرف ماذا يجري، رأينا ما لم نكن نحب أن نرى، يرمون بالكتب داخل أكياس القمامة كيفما كان، يقومون بجرِّها على الأرض، ينقلونها باتِّجاهِ مكاتب الإدارة، كانت هذه العملية بمثابةِ إهانة شديدة للكتاب الذي لايقل أهمية عن الهواء والماء، بالنسبة لنا ص١٥٨).
في غمرة قسوة هذا الواقع المُزمِن التي تعاني منه الأسيرات الفلسطينيَّات في المعتقلات الإسرائيليَّة؛ لا تعرف نادية الخيَّاط إلا سردَ إبداعٍ خلَّاقٍ وحقيقيٍّ للقيمِ الإنسانيَّةِ المترسِّخةِ في تاريخ فلسطين وثقافتها متعدِّدة الجوانب، تلك الثقافة والقٍيَم التي تُشكِّل سرَّ وجود الأوطان الساعِية للتحرُّر من عناوين المحتل، وإذا كان لهذه القامات- في فلسطين - من عنوان أو نموذج فهو، وبدون منازع، الأسيرات الفلسطينيَّات في المعتقلات الإسرائيليَّة.