الكتابة والرشوة…
الشريط الإخباري :
محمد تركي الربيعو
تعد مذكرات السياسي الفلسطيني السوري محمد عزة دروزة، واحدة من النصوص التي تضم تفاصيل غنية عن واقع السجون في دمشق (سجن المزة، سجن القلعة) في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين. وكان دروزة قد عرف بنشاطه السياسي منذ العشرينيات تقريبا، وارتبط في الأذهان بمشهد وقوفه في 8 آذار/مارس 1920 على شرفة بلدية دمشق في ساحة المرجة معلنا عن استقلال وتأسيس المملكة السورية العربية، التي تضم سوريا وفلسطين ولبنان. ومع انهيار هذا المشروع، والوصول للثلاثينيات، شارك بفعالية، وهو المولود في مدينة نابلس الفلسطينية، في النضال الفلسطيني ضد الانتداب الإنكليزي في فلسطين. أخذ ينشط من مدينة دمشق في جمع المعونات لثورة الفلسطينيين عام 1936، واستمر في مهمته هذه إلى جانب الحاج أمين الحسيني، الذي مثل آنذاك أحد أهم قادة الحراك الفلسطيني.
وعلى الرغم من مراقبة الفرنسيين لنشاطهم، إلا أنهم بقوا يتغاضون عن بعض هذه المساعدات، لكن هذا الواقع تغير مع بداية الحرب العالمية الثانية، التي أجبر فيها الفرنسيون على القبول بشروط الإنكليز في مراقبة النشاط الفلسطيني في سوريا ولبنان. وبناء على هذه التطورات، ألقى الدرك الفرنسي في دمشق القبض على صانع ومورد للأسلحة إلى الفلسطينيين، وقد عرف بقربه من دروزة، ولذلك داهم الدرك الفرنسي منزل الأخير وقام باعتقاله في 3 حزيران/ يونيو 1939.
أخذ دروزة في السجن يدون يومياته، وهي يوميات لن تقتصر على السجن فقط، بل كان قد بدأ بكتابتها قبل هذه الفترة بكثير، وهو ما فعلته نخب تلك الفترة مثل رستم حيدر وعارف العارف. المهم في ما كتبه دروزة في هذه النقطة، أنه وفّر لنا واحدا من أقدم النصوص عن حياة السجن في سوريا. وقد لا تتوفر في شهادة دروزة أي تفاصيل عن عمليات التعذيب، وربما ما جعلها غائبة، أن الفرنسيين وفروا له معاملة خاصة، كما يبدو أن التعذيب لم يمارس كثيرا آنذاك، واقتصر على بعض السجناء السياسيين في مركز الدرك الواقع سابقا في حي البرامكة، ولذلك تبدو ظروف السجناء السياسيين أفضل حالا مقارنة بالعقود اللاحقة في سوريا.
سجن المزة… ثكنة فرنسية
يذكر دروزة، أن الفرنسيين أنشأوا السجن في العشرينيات، لتوقيف الجنود المذنبين، أو المدنيين المحالين إلى المحاكم الفرنسية العسكرية. عند وصوله لسجن المزة، حاولت إدارة السجن معاملته بطريقة أقل خشونة، بوصفه معتقلا سياسيا. بدا له السجن من الداخل مكوناً من عدة عنابر يتسع الواحد منها لنحو عشرين أو ثلاثين شخصا، وفي كل منها دكتان مرتفعتان عن الأرض طولانيتان ينام السجناء عليهما، وفي جانب كل منها مرحاض مستور ومغسلة. وفي السجن عدة غرف صغيرة لسجن الضباط والرجال السياسيين، ومنها الغرفة التي أعطيت لدروزة. لم يسمح للسجناء بجلب فراش خاص إلا نادرا، ويعطى لكل سجين بطانية ينام عليها وبطانية أخرى يتغطى بها. وتوزع على المسجونين وجبتا طعام كل يوم، واحدة منهما باللحم مع الخضار وواحدة من النواشف، وفي الصباح يعطون فنجان شاي في كيلة من التنك.
في المقابل لم يسمح لهم بقراءة الكتب أو الصحف. مع ذلك تبدو ظروف السجن في هذه الفترة جيدة مقارنة بظروف السجن التي دوّنها معارضون سياسيون آخرون في مصر خلال العشرينيات والثلاثنيات من القرن العشرين.
من القصص التي يذكرها أيضا عن هذا السجن، ما يتعلق بالدرك الفرنسي، الذي يدير السجن. كانوا كما يذكر دروزة عبارة عن تشكيلة خاصة في سوريا ولبنان
لها قيادتها الخاصة، وأفرادها ليسوا مجندين، بل هم موظفون، وكان الواحد يتقاضى راتبا شهريا بين سبعين ومئة ليرة، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت، ما جعل كثيرا من أبناء أرياف فرنسا وعاطليها يأتون ويعملون في هذا السجن. أقام في السجن لعدة أشهر، ووقف أمام المحكمة العسكرية الفرنسية التي كان مركزها في شارع الصالحية في دمشق، ومؤلفة من ضباط فرنسيين برتب متنوعة، وحكم عليه بالسجن خمس سنوات، وبغرامة ألف فرنك. ونقل على إثرها إلى سجن القلعة.
سجن القلعة.. تاريخ قديم
يوفر لنا دروزة صورة دقيقة للغاية عن هذا السجن عامي 1939- 1940. وقد ظل الفرنسيون يتعاملون بحذر مع السجناء السياسيين، وخصصوا لهم عنابر جيدة مقارنة بباقي السجناء. وسمحوا لهم بإحضار ما يريدون من كتب ودفاتر وكرسي ومنضدة، ما مكن دروزة بالأخص من إكمال وكتابة عدد من المؤلفات المشهورة له لاحقا (تفسير القرآن). وقد سمي هذا السجن، سجن القلعة، لأنه يقع في قلعة دمشق القديمة الكبرى. وقد أقيم السجن في بعض أقسامها منذ العهد العثماني. تكون السجن من قسمين، داخلي وخارجي. الداخلي معد للمحكومين بأحكام طويلة على الأغلب، والمسجونون في هذا القسم لا يرون من الدنيا الخارجية غير السماء من الساحة المكشوفة، وأحد هذه العنابر سمي الجورة، لأنه سرداب تحت الأرض ينزل إليه بدرج طويل وليس له أي شباك في جدرانه. أما القسم الخارجي، الذي سجن فيه دروزة، فقد أعد لذوي الأحكام الخفيفة والموقوفين رهن المحاكمة، وضم آنذاك عنابر علوية وعنابر سفلية، وحشر في بعض هذه العنابر أيضا بين خمسين ومئة.
وعلى الرغم من الإصلاحات التي عرفتها العنابر السفلية فإنها ظلت لا تصلح حتى لوضع الحيوانات، فضلا عن البشر وسجن الناس فيها.
جمال السفاح الفرنسي
من التفاصيل المهمة والطريفة التي يذكرها دروزة عن سجن القلعة، ما يتعلق بموضوع الفساد الذي تعامل به السجانون مع السجناء. ففي التفاصيل التي يذكرها لنا، ما يتشابه كثيرا مع واقع السجون المدنية لاحقا في سوريا على صعيد الفساد والمحسوبيات. فكان العرفاء في السجن يطالبون بالحصول على رشاوى مقابل نقل المساجين من عنبر الى عنبر آخر، وكانوا يبتكرون أساليب وطرق في الرشوة، مثل السماح للمساجين بإدخال الحشيش ولعب القمار بالورق والنرد. وتمت رشوتهم بسيكارة أو بتقديم أكل أو قطعة فاكهة وبعض الفرنكات، ومنهم من يطلب ذلك طلبا. وكان يسيرون في السجن وكأنهم مارشالات، وكثيرا ما جرى تشبيههم بجمال باشا السفاح التركي.
ما يلفت النظر أيضا في سجني المزة والقلعة، هي التهم التي وجهت للسجناء، وبالأخص مع اندلاع الحرب العالمية الثانية. فالعديد من السجناء السياسيين اعتقلوا بقصص تتعلق بعلاقتهم أو تأييدهم لهتلر وموسوليني، وبالتالي نرى أن الفرنسيين استغلوا فترة الحرب أحيانا، للزج بأي معارض سوري أو فلسطيني لوجودهم، بتهمة العمالة لألمانيا أو إيطاليا، اللتين وقفتا في الطرف الآخر من الحرب. ومن بين هؤلاء السجناء، يأتي دروزة على ذكر سعدي الكيلاني، الذي كان متزوجا من سيدة ألمانية. واعتقله الفرنسيون مع زوجته وأرسلا إلى معتقل في صيدا جمع فيه رعايا الألمان. ثم نقل إلى تدمر، وبعدها إلى سجن المزة، وظلا معتقلين هناك لفترة من الزمن.
لا ينفي دروزة في المقابل أن معظم السجناء كانوا يميلون نحو الألمان، وينتظرون ويتمنون انتصارهم على الإنكليز والفرنسيين، للخلاص من الانتداب.
يبقى أن نقول إن سجن المزة سيتطور لاحقا، وسيكون على موعد مع مرحلتين من العقاب السياسي. الأولى في فترة جمال عبد الناصر. والثانية مع قدوم البعث. ليكون شاهدا على تاريخ ما يقارب من التسعين سنة وأكثر عن حياة الاعتقال السياسي في سوريا.