اليونسكو تدرج الفنّ ضمن التراث الثقافي غير المادي للبشرية

{clean_title}
الشريط الإخباري :  
اعتمدت اللجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) في إطار دورتها الـ18 المنعقدة خلال الشهر الفائت بجمهورية بوتسوانا، طلباً تقدم به المغرب، يتعلق بإدراج فن «الملحون» في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية. ويمثل هذا الاعتماد اعترافاً دوليا بفن مغربي أصيل شكّل في كل الأزمنة، وإلى اليوم، رافدا مهما من روافد الحضارة المغربية، ومكوّنا مرجعيا من مكونات هويتها الثقافية العريقة. وجاء في وثيقة ترشيح الملف الذي سهرت أكاديمية المملكة المغربية، عبر لجنتها الخاصة بالملحون، على إعداده وتوثيق معطياته الضافية، أنّ «الملحون هو شكل شائع من أشكال التعبير الشعري الشعبي في المغرب، تغنى أبياته باللهجة العربية وأحيانا بالعبرية، وتستمد موضوعاتها مباشرة من الحياة اليومية، وتتطور وفقا لنوع معين من الوزن الشعري، نشأ في منطقة تافيلالت في جنوب شرق المغرب، ثم انتشر ليشمل سكان المدن التاريخية موطن الحرف التقليدية، كما هو الحال في فاس ومكناس وسلا والرباط والدار البيضاء وأزمور وآسفي ومراكش وتارودانت». كما تشير الوثيقة إلى أن فن الملحون موجود كذلك في الجزائر، وتشترك منطقة المغرب العربي في العديد من عروضه الفنية التقليدية، في حين يستمر التبادل بين الباحثين في هذا النوع الشعري والموسيقي المتوارث إلى اليوم.

فن شعري عريق

الملحون فن شعري عريق، بعضهم يرى أنّه مُشتقٌّ من اللحن الذي يُفيد الخطأ اللغوي بوصفه من النظم غير المعرب، إذ كان المغاربة يستعملون الملحون في مقابل الشعري الفصيح المعرب، وبعضهم أرجع اللحن إلى ما يُفيد التلحين والتنغيم، بوصفه يُنْظم لكي يُتغذّى به قبل كلّ شيء، كما أشار إليه محمد الفاسي (1908-1997) في مقالاته الرائدة عن الملحون. كما يحتمل المعنى عند البعض الآخر الوجهين معاً؛ فهو إمّا سمي بذلك لارتكاب الشعراء الشعبيين أخطاء نحوية، أي أنهم ابتعدوا عن الفصيح للغة العربية وأصولها، وإما أنه سمي بذلك لتغني الشعراء الشعبيين به، وفيهم منشدو الطرق العيساوية والحمدوشية والجيلالية والغازية وجماعة النساء المنشدات، اللائي كُنّ يُسْتدعين في الحفلات العائلية ويسمين (الحضّارات).
وتشير المصادر إلى أن أول بواكيره ظهرت في عصر الموحدين، أي في القرن السابع للهجرة، وتطوّر عن فنّ الزجل في إطار التحرُّر من أعاريض النظام الخليلي وصرامة الفصحى وأصولها، مُوجداً لنفسه مقاييس إيقاعية تكون قادرة على تحقيق الملاءمة بين الشعر واللحن. فقد كان للمغاربة تفعيلات خاصة يزنون بها أشعارهم أساسها النغم والإيقاع يطلقون عليها «الصروف» وهي نوعان: «الدندنة» و»مالي مالي». ونظروا إلى العروض بوصفه مجموعة من القياسات (=الميازين) داخل كلِّ بحر من البحور (= لمرمّات) وأشهرها عندهم: المبيّت، ومكسور الجناح، والمشَثّْب، والسوسي أو المزلوك، فيما اكتشف محمد الفاسي نمطاً خامساً هو: الذّكْر. وتبرز هذه الأنماط من شعر الملحون، الذي كان أغلبه شعراً شفويّاً على أفواه الحُفّاظ، عن ثراءٍ إيقاعيٍّ تأتّى من أنّ شعراء الملحون كانوا يستهجنون كتابة «القصايد» ويُحبّذون تداولها الشفوي والمغنى، على اعتبار أن التدوين يشوهها ويفقدها حلاوتها وصدقها وغنائيّتها، لأنّه باختلاف الرسم الذي قد يقع فيها النسّاخ ما يُحرّف المعاني عن أصولها ودلالاتها المقصودة، وبالتالي يُعرّض القصيدة لعدة تغييرات في مضمونها أو بنيتها العامة. وفي هذا الصدد، يقول هنري ميشونيك في كتابه الأشهر «نقد الإيقاع»: «إن الشعر العربي العامّي المعروف في المغرب بـ(الملحون) هو مثالٌ للتجارب الوزنية التي عرّفت الشعر بالوزن، بالأعاريض المعروفة، بما فيها الأعاريض الكمّية والنبرية والمقطعية».
تستمدّ قصيدة الملحون التي ترافقها موسيقى تعزف على الآلات التقليدية، بما في ذلك العود والكمان والرباب والطبول الصغيرة، معانيها المعبر عنها من الموضوعات الشائعة، بما في ذلك الحب، وأفراح الحياة، وجمال الناس، والطبيعة، والصلاة والابتهالات الدينية، وفن الطهي، والرحلات الخيالية، والأحداث السياسية، والأغراض الاجتماعية والوطنية الاجتماعية، والقضايا القومية، وفي طليعتها قضية فلسطين، كما في قصيدة «الفلسطينية» التي نظمها الحاج محمد بلكبير بعد العدوان الصهيوني في يونيو/حزيران 1967، أو الشيخ محمد بن عمر الملحوني في إحدى «العروبيّات» المعنونة بـ(القدس).

يُذكر الملحون في معظم كتب الأدب والتاريخ المتأخرة مقرونا بفنّ الموشح؛ وذلك لقرابة أنثروبولوجية وجمالية بينهما. وكان قد بلغ شَأْواً ذا اعتبار، ونازعَ سلطة المركز الشعري، ونزع اللغة الفصحى من قُدْسيّتها، وراح ينتزع باستمرار اعتراف المدوّنة النقدية كـ «فعل شعريّ» يتمرّد على أعاريض الشعر التقليدي، ويخلق نِسَباً إيقاعيّةً جديدة في توزيع البنية المكانية والزمانية، وأوفر مجالاً مما كانت تسمح به البنية القديمة والمغلقة لنمط البيت الأصلي.

كما تنقل هذه القصائد رسائل أخلاقية تشجع على التواصل البناء بين الناس، في لغة يسهل الوصول إليها، وضمن أجواء احتفالية باعثة على الشعور بالرضا والمتعة والانشراح. فعدا موسيقاها الغامرة بحبّ منشديها، تتضمن قصيدة آليات الحكي والحوار والتشخيص الرمزي والكنائي الذي يكسر رتابة النظم، وهو يرفد من خيال سمح رقراق يصل رؤية القلب بصفاء التجربة الروحية، كما في نصوص المديح النبوي والغزل والتصوُّف لدى كلّ من سيدي قدور العلمي، وعبد العزيز المغراوي، ومحمد الحراق، والجيلالي مْثِيرَدْ، والتهامي المدغري، والحاج أحمد الغرابلي، ومحمد بن سليمان، والعيسوي الفلوس، وابن علي ولد ارْزِينْ صاحب قصيدة «الشمعة» ذائعة الصيت. مع هؤلاء اكتملت الصورة الفنية لقصيدة الملحون، واستقلّت بمصطلحاتها وموضوعاتها وبنياتها الجمالية والشكلية، مثلما نتبيّن ذلك في كتب نقد الملحون الرائدة، مثل: «معلمة الملحون» لصاحبها محمد الفاسي، و»القصيدة» لعباس الجراري، و»الملحون المغربي» لأحمد سهوم، و»أنواع الزجل في المغرب» لمحمد الراشق. لقد كان الملحون، بتعبير محمد الفاسي، «ديوان المغرب وسجلّ حضارته» بحقّ؛ فلم يتراجع، في أيّ وقت، عن إرضاء ذوق المغاربة وروحهم السمحة. ولم يسبق لشعراء المغرب وشاعراته أن عبّروا عن دخائلهم أو تغنّوا بمشاعرهم الذاتية والموضوعية في فن آخر غير الملحون. فإذا كانت ممارسته في الماضي قد انتقلت بشكل غير رسمي داخل الحواضر الكبرى، من خلال التلمذة على المطربين والموسيقيين والناسخين ومؤلفي الأغاني والحرفيين من أصحاب الصنائع التقليدية، فإنّ العديد من الجمعيات والمعاهد الموسيقية، وحتى التجمعات العائلية والمجموعات الغنائية نفسها، تبذل اليوم جهدا مضاعفا حتى يظلّ هذا الفن العريق حيّاً في واقع الناس يصلهم بتاريخهم وثقافتهم الأصيلة، ولاسيما بين الشباب والأجيال الجديدة، من خلال المطبوعات التي تعرف بالملحون ورواده وتتضمن نصوصه الكبرى، أو المهرجانات التي تقيمها كشكل من أشكال الاحتفال الجماعي الذي يعزز لحمة التماسك والخطاب الفنى الراقي.

شجرة أنساب

يُذكر الملحون في معظم كتب الأدب والتاريخ المتأخرة مقرونا بفنّ الموشح؛ وذلك لقرابة أنثروبولوجية وجمالية بينهما. وكان قد بلغ شَأْواً ذا اعتبار، ونازعَ سلطة المركز الشعري، ونزع اللغة الفصحى من قُدْسيّتها، وراح ينتزع باستمرار اعتراف المدوّنة النقدية كـ «فعل شعريّ» يتمرّد على أعاريض الشعر التقليدي، ويخلق نِسَباً إيقاعيّةً جديدة في توزيع البنية المكانية والزمانية، وأوفر مجالاً مما كانت تسمح به البنية القديمة والمغلقة لنمط البيت الأصلي. وبما أنّ فن الموشح كان، في بدايات عهده، فنًّا مسموعا يتداوله الناس بالمشافهة، وخارج تقاليد النموذج الشعري، لم يُقيّد المؤلفون، وقتئذٍ، شيئا قليلا أو كثيرا منه في مظانّ كتبهم. ومن المرجح أن النماذج الأولى للموشح لم تكن إلا مقطوعاتٍ تُشبه الشعر المُسمّط، إلى أن اغتنى بالأنماط الإيقاعية التي ابتكرها الوشّاحون وتفنّنوا فيها بألوان مختلفة من حيث التفريع والتغصين والتذييل في تشكيل مقطوعاتهم، وفق سلالم موسيقية وجمالية جديدة. وكان لابن سناء الملك، من خلال كتابه «دار الطراز في عمل الموشحات» الفضل في تحديد قواعد هذا الفن الشعري الذي شبّهه بـ»الكنز الذي ادخرته لهم الأيام، وبالمعدن الذي نام عنه الأنام» ولولا هذا العمل التأسيسي الذي يشبه صنيع الخليل بن أحمد الفراهيدي مع القصيدة العربية التقليدية، لضاع علم جليل في فنّ لم يكن ضمن «المعتمد الرسمي».



إلى جانب الموشح، صنَّف القدماء في ذلك العصر الذي يبدأ من القرن السادس الهجري، من أمثال: صفي الدين الحلّي، وابن سعيد الأندلسي، وابن حجّة الحموي، والأبشيهي، فنون الزّجل والمواليا والقوما والكان وكان، باعتبارها مثل الملحون فنونا شعرية ملحونة أو غير مُعْرَبة؛ فهي أشكالٌ من النظم الشعري لم يلتزم أصحابُهُ فيه بنُظُم اللغة الفصحى المعيارية وقواعدها التركيبيّة، وإن كانوا أدمجوها في قوالب متنوّعة من البناء من حيث كثرة عدد الأقسام وأشطار وحداتها المنظومة، ومن حيث التنوع في التقسيم الموسيقي لعناصرها المتوازية. وكان ابن خلدون قد كتب يقول: «ولمّا شاع فنّ التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته، وتنميق كلامه، وتصريع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية، من غير أن يلتزموا فيه إعراباً، واستحدثوا فنّاً سمّوه الزجل والتزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد، فجاؤوا فيه بالغرائب، واتسع فيه للبلاغة مجال حسب لغتهم المستعجمة». فالزجل توأم الملحون وقرينه التاريخي، نشأ في أثر الموشح واقترض بناه الفنية وتجاوبا معاً، ولم يكن النظم في الزجل دليل عَجْزٍ من شعراء العامّية، بل نظموه عن موهبة واقتدار على القول فيه، حتى أنّ منهم من كان ينظم القريض والموشّح نفسه. وكان أبو بكر بن قزمان (ت 554هـ) إمام الزجّالين بالأندلس، وهو الذي اخترع الزجل، وجعل إعرابه لحنه، فامتَدّت إليه الأيدي، و»عقدت الخناصر عليه» كما يقال.
فالزّجل، إلى جانب المواليا والدوبيت والقوما والكان وكان، نُظر إليها بوصفها أهمّ الأنواع الشعرية غير المعربة التي ذكرتها المصادر، أُعْطيت لبعضها مرتبة عليا، وأوجز الحديث في البعض الآخر؛ فيما لم تُشِرْ إلى نَوْعٍ ثالثٍ مُهْمل مثل الحجازي والحماق. عدا أن هذه الأنواع قد اختلفت تسمياتها من مكان في المغرب إلى آخر في المشرق، وحتى داخل المكان نفسه. والجدير بالذّكر، فإنّ الأنواع الواردة في تصنيفاتهم ليست هي كلُّ الأنواع التي استحدثت؛ فهناك أنواع كثيرة لم تكن قد تشكّلتْ بعد، وأخرى قد تكون أكثر محلّيةً ولم تستطع الانتشار خارج المناطق التي نشأت فيها. وقد سبق لابن خلدون أن ذكر أنّ المغاربة استحدثوا نوعاً جديداً مزدوجاً سمّوه «عروض البلد» ثُمّ جعلوا منه أنواعاً أخرى سمّوها المزدَوِج، والكارِي، والملْعَبة، والغَزَل. إلا أنّ المشهور عند المغاربة من هذه الأنواع هو شعر الملحون الذي طبقت شهرته الآفاق بأرض المغارب.
عبداللطيف الوراري
كاتب مغربي

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences