مسرحية “اغتراب” تنجح في لفت الانتباه
يعتبر الفضاء الثقافي “لرتيستو” أو الفنان بحسب اللسان الإيطالي، أحد أهم الفضاءات الثقافية بمدينة تونس العاصمة باعتبار مساهمته الفاعلة في تنشيط الحياة الثقافية في البلاد من خلال انفتاحه على مختلف الفنون والفنانين محتضنا عروضهم وآخر إبداعاتهم. ويضم الفضاء مسرحا وسينما ومكتبة هامة ومقهى ثقافيا وغيره من الفضاءات التي يرتادها المثقف والفنان ويقبل عليها بحثا عن الإبداع والجمال في عاصمة تتنفس ثقافة وفنا ولا تكل ولا تمل من العروض حتى في أحلك الظروف وفي ذروة الأزمات.
وينظم فضاء “لرتيستو” لقاءات مسرحية هذه الأيام يتم فيها عرض آخر الإنتاجات للمسرح التونسي لتكون فرصة يتعرف من خلالها جمهور الفن الرابع على إبداعات الفنانين التونسيين من مخرجين وممثلين وكتاب سيناريو وموسيقيين وتقنيين وغيرهم. حتى اعتبر البعض أن لقاءات “لرتيستو” هي بمثابة جواز السفر للأعمال المسرحية التونسية التي ستشارك في المسابقات والمهرجانات الدولية الكبرى، فمن يسعفه النجاح ويستحسن الجمهور أعماله يصبح سفيرا للمسرح التونسي في مختلف التظاهرات.
تجديد وتفرد
ومن بين الأعمال اللافتة للانتباه، والتي تعرض في هذه “اللقاءات” مسرحية “اغتراب” للمخرجة التونسية انتصار عيساوي، وهي مسرحية كتب نصها وليد الدغسني وشارك في التمثيل فيها كل من نصيب البرهومي، جيهاد يحياوي، أسماء الوسلاتي، ومنى شنوفي، وساعد في إخراجها بولبابة الهذيلي، بالإضافة إلى آخرين قدموها في أحسن صورة من حيث الإضاءة والموسيقى المصاحبة وغيرها. واللافت أن الديكور قد غاب عن هذه المسرحية عن قصد حتى لا يتشتت تركيز المشاهد على الهوامش ويغفل عن حركات أجساد الممثلين على الركح وعلى أحاديثهم عن الغربة التي يعيشونها سواء في وطنهم نفسه وحتى خارجه في بلدان المهجر.
يتضمن الركح إذن الممثلين الذين تحولوا في حد ذاتهم إلى ديكور للمسرحية تُسلط عليهم الأضواء وسط عتمة المكان وظلمته وهو ما حمل تقني الإضاءة مسؤولية مضاعفة لتتبع حركات الممثلين بدقة وإبراز انفعالاتهم تماشيا مع النص. لقد تم الاختيار على بيت العائلة ليكون الإطار المكاني لهذه المسرحية، فكان بيتا خاليا من الأثاث على غير العادة ولا يتضمن إلا رواقين صنعتهما الإضاءة هما بمثابة كرسي الاعتراف الذي يبوح فيه الأبطال بمشاعر الغربة النفسية التي تجثم على صدورهم وتدفعهم إلى التمرد على السائد والذهاب في رحلة بحث عن الذات.
لقد استندت المخرجة في بحثها عن الإبداع والتفرد على الممثلين، وضحت بعنصر هام جدا في إيصال الرسائل في العمل المسرحي ألا وهو الديكور، فنجحت إلى حد لافت في مراهنتها وذلك بالنظر إلى الاحترافية العالية للممثلين الذين في رصيد بعضهم تجارب مسرحية وتلفزيونية وحتى سينمائية لافتة. ويبدو أن انتصار عيساوي قد أحسنت اختيار ممثلين من ذوي التجربة بالنظر إلى هذه الرغبة من قبلها في سد فجوة غياب الديكور المتعمدة من أجل التفرد وإخراج عمل يجلب إليه الأنظار من جميع الزوايا الإبداعية.
صراع وتنافر
إن العدد الجملي للممثلين هو أربعة وهم إدريس وشقيقته علياء، والشابان إسكندر وكارولين، وينشأ بين إدريس وعلياء من جهة وبين إسكندر وكارولين من جهة أخرى صراع أجيال حقيقي وتنافر لافت بين من أنهكته السنين وعاش الاغتراب الداخلي (إدريس)، وبين من يتمرد على السائد ويتوق إلى التغيير(إسكندر). والأخير هو نجل إدريس ويشعر باليتم بعد مفارقة والدته للحياة وانصراف والده رجل الأعمال إلى البحث عن مصالحه حتى لدى تجار الدين ما دام لديهم من النفوذ ما يجعله قادرا على تحقيق مصالحه غير عابئ بنجله يتيم الأم الذي أصبح يفكرا جديا في الهجرة السرية عبر البحر ممتطيا مراكب الموت.
أما علياء شقيقة إدريس فقد تحدت في وقت سابق عائلتها ولحقت بحبيبها الذي غادر تونس إلى الخارج، وهي تعود بعد مضي عشرين عاما إلى بيت العائلة يحركها الحنين وألم الغربتين. فلا هي أحست بالراحة في وطنها ولا وجدت هذه الراحة النفسية المنشودة في بلد المهجر، فأينما حلت شعرت بالاغتراب فلم تجد من حل سوى الهروب إلى ذكريات الطفولة يحركها الحين.
أما كارولين فغربتها تتمثل في كونها ولدت بفرنسا ونشأت في بلد الأنوار لكن بثقافة تونسية موروثة عن العائلة، فاحتارت في أمرها ولم تعد تدرك هل هي تونسية أم فرنسية، فمن جهة تونس هي بلد الآباء والأجداد والعطلة الصيفية والعادات والتقاليد، فيما فرنسا هي بلد المنشأ وبلد قيم مجتمعية مختلفة نهلت منها الفتاة في حياتها اليومية. وكارولين هي مثال حي لما يعيشه الجيل الثاني والثالث للمهاجرين التونسيين في الخارج، وخصوصا في فرنسا حيث التواجد الأهم للجاليات التونسية من الناحية العددية، من تشتت وغربة.
بوح واعترافات
وبالنهاية فالجميع في غربة سواء إدريس الذي لم يغادر وطنه ولا يفكر في الهجرة، أو نجله إسكندر الذي يطمح للهجرة، أو علياء شقيقة إدريس التي غادرت تونس ثم عادت إليها، أو كارولين التي ولدت أساسا في بلد المهجر لكن أصولها التونسية وعادات وتقاليد بلدها الأم جعلتها تشعر بالغربة. فالكل مغتربون سواء من ولدوا في وطنهم ولم يغادروه، أو من يطمحون للمغادرة يوما ما ويتوقون إليها، أو من غادروا ثم عادوا، أو حتى أولئك الذين ولدوا هناك بعيدا عن أرض الوطن وفي بيئة وثقافة مختلفة.
الكل وقف في الركن ليعترف ويبوح بما يشعر به من غربة ويتساءل عن هويته وانتمائه، والكل يعيش التمزق والحيرة، ولم يسلم أحد من هذا الشعور الغريب الذي ينتاب النفس ويجعلها في حالة قلق تتجاذبها أفكار مختلفة. وكأن المخرجة ومعها كاتب النص المسرحي أرادا القول بأن الغربة غير مرتبطة بالمكان وإنما بالشخص ومدى قدرته على التأقلم مع هذا المحيط أو ذاك ولذلك غاب الديكور وغاب المكان الذي لم يعد مهما ما دام الشعور بالغربة يلازم الشخص سواء هنا أو هناك.
وإضافة إلى تسليط الضوء على الظواهر النفسية للبحث عن معالجتها، يبدو أن ما تعيشه شخصيات المسرحية من معاناة إجتماعية تتسبب لها في هذا الشعور بالغربة، مستمد من الواقع التونسي، فشخصية مثل إدريس بكل تلك العلاقات المالية والسياسية المشبوهة، والذي يغتر بالسلطة من دون أن يقرأ حسابا لزوالها وزوال نفوذه المالي معها، يعج بأمثالها المجتمع التونسي خصوصا في السنوات الأخيرة. أما الشاب الذي بات أقصى طموحه المخاطرة بركوب البحر للذهاب إلى الجنة الأوروبية عبر إيطاليا القريبة فأمثاله كثر في تونس اليوم أيضا بعد سيطرة الاقتصاد الريعي واحتكار قلة قليلة للقطاعات الاقتصادية وعدم فسح المجال للمستثمرين الشبان للنجاح، وفي ظل غلق باب الانتداب في الوظيفة العمومية نتيجة ارتفاع كتلة أجور المنتمين إلى القطاع العام.
فالفن هو ابن بيئته وفيها ينشأ ومنها يستمد أفكاره ومواضيعه ورؤاه ومعالجاته، والمسرح التونسي كان على الدوام صوت مجتمعه الذي يقدم المشاكل كما هي بدون محاذير، وذلك ليبحث لها عن الحلول أو ليدعو على الأقل إلى التفكير بشأنها. ولم تشذ مسرحية اغتراب عن القاعدة وقدمت عملا سلط الضوء على ظاهرة نفسية مقتبسة من ملفات مصحات العلاج النفسي ووظفت كل الوسائل الإبداعية الممكنة لنجاح العمل وحيازته على رضا الجمهور والنقاد.
روعة قاسم