مسلسل "ممالك النار" يقلق الأتراك
الشريط الإخباري :
لسنوات طويلة خلت، بدت الساحة شاغرة أمام الدراما التركية التي قامت بتقديم التاريخ، على نحو يلمع الصورة القاتمة للسلطنة العثمانية، غير أن مسلسل ”ممالك النار”، الذي بدأ عرضه مؤخرًا على قناة ”إم. بي. سي" يسعى إلى تقديم طرح مختلف عن الدراما التركية المدبلجة التي غزت المشاهد العربي.
وأثار المسلسل، الذي أنتج بميزانية فاقت 40 مليون دولار، جدلًا واسعًا في الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي، وأفرز انقسامًا حادًا بين من اعتبره مسيئًا لتاريخ تركيا، وبين آخرين رأوا فيه ”تقويمًا" للاعوجاج الذي كرسته المسلسلات التركية التي لطالما مررت رسائل سياسية عبر انتاجات ضخمة صرفت عليها الملايين، مثل مسلسل ”الفاتح" و"قيامة أرطغرل".. وسواهما.
ولم يأتِ هذا الانقسام وتلك الصدمة، وفقًا لمتابعين للشأن الدرامي، بسبب أخطاء تاريخية وردت في مسلسل لا يزال في بداية عرضه، وإنما بسبب كسر ”ممالك النار" للقناعات التي رسختها الدراما التركية، إذ بدت رؤية المسلسل مختلفة عما اعتاد عليه المشاهد العربي، من جرأة في الكشف عن المسكوت عنه، والتصريح بحقائق ووقائع طمستها الدراما التركية التي سعت إلى تمجيد تاريخ السلاطين العثمانيين، من دون الاقتراب من المحاذير التي تفرضها السلطات التركية الرسمية، كإنكارها، مثلًا، للإبادة الأرمنية التي راح ضحيتها مليون ونصف المليون أرمني مطلع القرن الفائت، باعتراف المؤرخين، ومختلف المصادر التاريخية.
وبدا كاتب مسلسل ”ممالك النار" المصري محمد سليمان عبدالمالك، واعيًا للتشويه الذي مارسته الدراما التركية، إذ قال في تصريحات صحفية إن مسلسله يعد ”محاولة لاستثمار الفن في توسيع وعي المتلقي ومداركه"، مشيرًا إلى أن ”علينا أن ندرك أننا في معركة وعي مستمر، تحاول تركيا حسمها لصالحها بتقديم أعمال زائفة ولا ترصد الحقائق بصورة محايدة".
ووصف عبدالمالك فترة حكم العثمانيين بأنها كانت ”مليئة بالمجازر التاريخية"، وهو ما يحاول تسليط الضوء عليه عبر عمله الذي جاء، من الناحية البصرية، متقنًا، ومنفذًا بطريقة ملحمية جذابة.
ولم يشأ كاتب العمل أن يقدم عملًا ساذجًا، ووقائع مفتعلة، شبيهًا بالدراما التركية، وإنما استعان بورشة عمل يذكر منهم، مثلًا: حسام هلالي، أحمد بكر، صبري الدالي، أحمد ندا، وحسام دياب…وغيرهم؛ بهدف كتابة عمل يخلو من الأخطاء التاريخية، كما استعان بالكثير من المراجع والمصادر الموثقة، ومن أبرزها: ”بدائع الزهور من وقائع الدهور" للكاتب المصري ابن إياس، وهو مؤرخ مصري عايش الفترة التي يغطيها المسلسل، وكان يكتب ما يشبه يومياتها ويعتبر شاهدًا على تلك الحقبة، ومرجع آخر، وهو ”واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني"، لكاتبه ابن زنبل الرمال بطريقة السير الشعبية وباللغة العامية المصرية.
ورغم أن الحلقة الأولى تبدأ بمقطع يسرد جزءًا من سيرة السلطان العثماني محمد الفاتح، الذي وصل في سنة 1451 م إلى عرش السلطنة العثمانية، بعد قتله لثلاثة من إخوته، إلا أن المسلسل سرعان ما ينتقل إلى فترات تاريخية لاحقة ليتناول الصراع العثماني المملوكي ودخول العثمانين إلى الشام ومصر في عهد السلطان العثماني سليم الأول، وقصة آخر سلاطين المماليك، طومان باي، الذي هُزم أمام جيش السلطان العثماني سليم الأول في مصر عام 1517 في معركة الريدانية، بعدما تعرض لخيانات متتالية من أمرائه.
وتولى إخراج المسلسل، المؤلف من 14 حلقة، المخرج البريطاني بيتر ويبر في أول عمل له بالمنطقة العربية، بعد أن أخرج أفلامًا ملحمية شهيرة، مثل ”الإمبراطور" عام 2012 ، وفيلم ”الفتاة ذات القرط اللؤلؤي" عام 2003.
وجرى إنتاج العمل بميزانية ضخمة تتجلى في طريقة تصويره الملحمية، ومشاهد المعارك والمجاميع الضخمة، والموسيقى التصويرية المرافقة، فضلًا عن الحوار الذي ينم عن حس تاريخي فريد، ويشارك فيه نجوم الدراما العربية، مثل: خالد النبوي (في دور آخر سلطان المماليك طومان باي)، والسوري محمود نصر (في دور السلطان العثماني سليم الأول)، ورشيد عساف (في دور سلطان المماليك قانصوه الغوري)، ومنى واصف وديمة قندلفت، وعبدالمنعم عمايري، ورفيق علي أحمد.
الاحتجاج التركي
ويبدو أن تركيا قد تنبهت، سريعًا، إلى ما سيفصح عنه العمل، وذلك بدءًا من التترات والعبارة التي تظهر في المقدمة، ”قانون دموي حكم إمبراطورية، فأصبح لعنة تطاردهم"، إضافة إلى حوارات تقول: ”السلطان أهم من الإنسان"، وعبارة ”العرش لا يقبل القسمة على اثنين"، وعبارات أخرى عن سرقة الأرض والحكم واغتصاب النسب والدين".
وفي ردود الأفعال التركية، حتى الآن، والتي من المرجح أن تتصاعد مع الحلقات المقبلة، زعم الصحافي التركي جان هساسو عبر حسابه في تويتر، أن مسلسل ممالك النار ”ليس المشروع الأول الذي يلطخ صورة تركيا"، مشيرًا إلى أن المسلسل ”ليس وثائقيًا، وبالتالي سيحفز فضول المشاهدين العرب لمعرفة التاريخ العثماني"، وهو ما يخشاه الأتراك على ما يبدو.
الكاتب والصحافي التركي خليل جيلك، غرد، بدوره، عبر صفحته قائلًا: ”لقد شاهدت الحلقة الأولى من مسلسل ممالك النار الذي يعتمد السيناريو الخاص به على معاداة العثمانيين. المسلسل يدس السم من افتتاحيته، التي تظهر أن السلطان سليم يقتل شقيقه".
وأضاف جليك في تغريدة أخرى، أن الحلقة الأولى تشبه محاولة تقليد لمسلسل ”قيامة أرطغرل، وتبدو ميتة ومملة، وأن اختيار الموسيقى مستوحى من مسلسل صراع العروش وتفتقد للحس الشرقي".
وقال الأكاديمي التركي زكريا كوشون، إن ”المسلسل لم يصل إلى مستوى التوقعات، لكن يبدو من السيناريو أنه سيكون أسوأ طريقة لشرح التاريخ العثماني".
ورغم ردود الأفعال التركية الغاضبة هذه، إلا أن متابعين يرجحون أن المسلسل سيضع حدًا للادعاءات التركية عن تاريخ العثمانيين الذين استعمروا العرب ونظروا إليهم كخدم وحثالة، وهو الأمر الذي ما زال إلى الآن يلقي بظلاله على سياسة تركيا التوسعية ورغبتها الحالية في السيطرة وبسط النفوذ في العالم العربي.