الدبلوماسية… لا السياسة

{clean_title}
الشريط الإخباري :  

 

بقلم :المهندس نبيل إبراهيم حدّاد 
كاتب في شؤون الصناعة وبناء القدرات التقنية والإدارية

هذا المقال ليس تعليقًا سياسيًا، بل هو قراءة مهنية في الدبلوماسية بوصفها أداة للتواصل والتفاوض والتمثيل. يتركز عملي وكتاباتي أساسًا على تعزيز الاقتصاد الأردني وبناء القدرات التقنية، إلا أن الدبلوماسية تبقى عنصرًا محوريًا في دعم الاثنين معًا. ويُعد الحراك العلني الأخير للسفير الأميركي في الأردن مدخلًا مناسبًا لتوضيح هذا الفصل المهم بين الدبلوماسية والسياسة.
الدبلوماسية الأردنية: قوة في الداخل والخارج
تمتعت الدبلوماسية الأردنية بفاعلية واضحة على مدى عقود. وقد أثبتت المملكة أن القوة الداخلية والتفاعل الخارجي عنصران متكاملان. فالأردن قوي في الخارج لأنه واثق في الداخل، مطمئن إلى مؤسساته، وهويته، ونهجه الوطني.
هذه الثقة تُمكن الأردن من الانخراط مع الدبلوماسيين الأجانب بصراحة، والتعبير عن مواقفه الواضحة وأحيانًا الحازمة تجاه القضايا الإقليمية والدولية، دون تردد أو قلق. التفاعل لا يعني الاصطفاف، والحوار لا يُضعف الثوابت الوطنية.
الدبلوماسية تعني الانخراط لا العزلة
من أكثر الإشكاليات شيوعًا في النقاش العام الخلط بين الانخراط الدبلوماسي والتأييد السياسي. والحقيقة أن الدبلوماسية وُجدت أساسًا لإدارة الخلاف، لا لتجنبه.
حين يقوم جلالة الملك عبدالله الثاني بزيارات خارجية وخاصة إلى الولايات المتحدة يلتقي بطيف واسع من القيادات والمؤسسات والشخصيات، بمن فيهم من لا يتفق مع سياسات الإدارة القائمة. هذا النهج لا يضعف الموقف الأردني، بل يعززه ويعمّق تأثيره، ويعكس نضجًا دبلوماسيًا وثقة عالية بالنفس.
وما يُعد ممارسة استراتيجية مشروعة ومقدّرة في الخارج، يجب أن يُفهم بالمعيار ذاته في الداخل.
الولايات المتحدة: خلاف سياسي ومصالح مشتركة
توجد بين الأردن والولايات المتحدة خلافات سياسية واضحة، لا سيما فيما يتعلق بالصراعات الإقليمية والقضايا الإنسانية. وهذه الخلافات حقيقية ومبدئية، وقد عبّر عنها الأردن بوضوح.
في المقابل، تبقى هناك مصالح مشتركة لا يمكن تجاهلها، تشمل: التعاون الأمني، والتنمية الاقتصادية، والتعليم، والبنية التحتية، والتنسيق الإنساني، والتعاون التقني. وفي مثل هذه البيئة المركبة، فإن قطع التواصل ليس خيارًا حكيمًا ولا عمليًا. فالدبلوماسية وُجدت لإدارة التعقيد، لا لاختزاله.
دور السفراء: تمثيل مهني
من صميم واجبات أي سفير التمثيل المهني لدولته، والحفاظ على قنوات الاتصال، والاستماع إلى المجتمع المضيف، ونقل الواقع إلى حكومته. والانخراط العلني إذا ما تم ضمن أعراف العمل الدبلوماسي هو ممارسة مشروعة وضرورية.
لمحّة موجزة عن السفير الأميركي في الأردن
السفير الأميركي لدى المملكة الأردنية الهاشمية دبلوماسي مهني يتمتع بخبرة واسعة في العمل الحكومي. شغل مناصب رفيعة في وزارة الخارجية الأميركية، وسبق له أن خدم في مؤسسات أمنية وعسكرية، إضافة إلى عمله في بعثات دولية متعددة في مناطق معقدة. كما يمتلك خلفية أكاديمية في السياسات العامة والعلوم، ما يعكس مقاربة مؤسسية ومنهجية للعمل الدبلوماسي.
لماذا يجب على الأردن تشجيع الانخراط لا رفضه
السفير الكفؤ وذو الخبرة يوفّر قناة حوار مهنية، لا شخصية. إن انتقاد السياسات حق مشروع، بل وضروري أحيانًا، لكن قطع الحوار بالكامل يغلق قنوات التأثير ويحد من قدرة الدول على الدفاع عن مصالحها.
يستطيع الأردن من خلال الانخراط الدبلوماسي أن يوصل مواقفه بوضوح، ويطرح رؤيته الإقليمية، ويعيد توجيه التعاون نحو المصالح المشتركة، مثل: الأمن، والتنمية، والتعاون التقني، والتبادل الاقتصادي، والعمل الإنساني.
الدبلوماسية غير مشروطة بالتوافق السياسي الكامل. فحتى في ظل الخلافات سواء كانت جيوسياسية أو إقليمية تبقى ملفات الاستقرار والتنمية والتعاون الإنساني أرضية مشروعة للتفاوض.
ومع وجود دبلوماسي محترف على الطرف الآخر، فإن التقليد الدبلوماسي الأردني القائم على الوضوح، والاتزان، والاعتدال، والحوار المبدئي يستطيع أن يفرض حضوره بفاعلية. فالتأثير يتحقق بالحديث لا بالصمت.
التفاوض كمهارة مهنية: تجربة شخصية
تعزز قناعتي بهذا النهج تجربتي المهنية الشخصية. فقد كنت عضوًا في لجان تقنية وتعاقدية دولية تفاوضت على نظام كابل بحري يمتد عبر نصف الكرة الأرضية، وشارك في هذه المفاوضات عدد من الحكومات، والشركات متعددة الجنسيات، والمقاولين، والجهات التنظيمية، لكل منها أنظمة قانونية وثقافات ومصالح مختلفة.
لم يتحقق النجاح عبر مواقف متطابقة، بل من خلال الاستمرار في الحوار، وفهم الهويات المختلفة، واحترام الأطر المؤسسية، والتفاوض المنضبط. وقد أسهمت هذه التجربة في تطوير قدرتي على التفاوض مع الأطراف الأجنبية، وأكدت قناعة أساسية: الانسحاب لا يحل شيئًا.
الخلاصة: الدبلوماسية رصيد وطني
تشجيع الانخراط مع الدبلوماسيين الأجانب لا يُضعف الأردن، بل يؤكد ثقته بنفسه ونضجه السياسي وعمقه الاستراتيجي. يمكن الجمع بين الخلاف المبدئي والحوار المستمر، كما يمكن الدفاع عن الثوابت دون إغلاق الأبواب.
الدبلوماسية ليست سياسة.
الدبلوماسية ليست تأييدًا.
الدبلوماسية هي فن وممارسة الانخراط الواعي، وقد أتقن الأردن هذا النهج عبر تاريخه.

إخلاء مسؤولية:
يمثل هذا المقال الآراء والتفسيرات والتقديرات المهنية الشخصية للمهندس نبيل إبراهيم حدّاد، وهو لأغراض معرفية وتوعوية فقط، ولا يُعد استشارة مهنية أو قانونية أو تعاقدية. وقد بذل الكاتب كل جهد ممكن لضمان الدقة، إلا أنه لا يتحمل أي مسؤولية عن أي أخطاء أو سهو أو عن أي استخدام أو اعتماد على المعلومات الواردة فيه. ويُنصح القرّاء والمؤسسات باستخدام تقديرهم الخاص ومواءمة الأفكار المطروحة مع ظروفهم الخاصة.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences