التلجيف في بئر ضحلة

{clean_title}
الشريط الإخباري :  
ابراهيم عبدالمجيد القيسي - الحمد لله على نعمة المطر، ونسأله مزيدا من الغيث للزرع والضرع ولكل ذي كبد رطبة.. 
كنا نتزود الماء من الآبار الارتوازية، نسقي غنمنا ونملأ الروايات أو (براميل حديد)، بواقع ? براميل يوميا، أي ?? لتر من الماء، وأحيانا ننتظر حتى يصدر الرعاة فنرد البئر..
كنت في التاسعة من عمري، وفي يوم صيفي تموزي، ذهبنا بصحبة والدي لنسقي الحلال ونملأ (القلنات مَيّه)، وكانت البئر ضحلة، رجمها مكشوف، وكنا ننشل الماء (تلجيفا)، يقوم والدي أو أحد أشقائي بإنزال (الدلو) الى أسفل البئر، ويبدأ بلولحته حتى يصدم بجوانب البئر، ثم يتركه ليسقط في المياه القليلة التي ما زالت في البئر، ويحركه برفق حتى لا يختلط الطين بالماء فيصبح موحلا، وأحيانا كان ينزل أحدنا الى قاع البئر، يملأ الدلو بالماء البارد، فيقوم الآخر بنشل الدلو بعد أن يمتلئ، ويحبذ أن يكون الدلو بلا (رشاة) تغرقه، فالرشاة في هذه الحال تثير الطين.
في ذلك اليوم اللاهب، ثارة ثائرة والدي رحمه الله، حيث كانت هناك أفعى سوداء ضخمة تستقر على رجم البئر، وتظهر (لاصفة) في ضوء الشمس الذي يستقر على رأس الرجم وقت الظهيرة، وقد اعتدنا أن ينزل أصغرنا حجما الى قاع البئر مربوطا بحبل، ويملأ الدلو في كل مرة، وكان يملأ حوالي ??? دلو يوميا.
قام والدي بقذف الأفعى بحجر متوسطة الحجم (10 كلغم تقريبا)، ثم ربطني بالحبل وقام بإنزالي الى البئر وهو يلقي أوامره بصرامة شديدة، خشية أن أخطئ في شيء فتلدغني الأفعى الجريحة، بينما كنت أنا أشعر بسعادة غامرة على هذه الثقة التي منحني إياها والدي المرحوم، الذي كان يقمع شقاوتي بكل ما ملك من ردع وقسوة أحيانا، لا سيما حين تصادفنا أفعى أو خطر ما، حيث كنت أبحث بحثا عن الأفاعي والمغامرات والمتاعب .. لكنه في ذلك اليوم طلب مني أن أنزل الى قعر البئر وأقتل الأفعى وأربطها بحبل الدلو ليسحبها خارج البئر، وسلّحني بوتد فولاذي يفوق وزنه كلغم أو اثنين، وكان يرشدني بأي جزء من الوتد أضرب الأفعى لأسحق رأسها، فنزلت راضيا سعيدا و(شايف حالي)، وهي السعادة التي لاحظها والدي رحمه الله فارتاب منها بالقول (يَضحك السعَدَان، ودّه يلعب !)، فتصنعت الشكيمة مخفيا فرحي، حتى لا يتراجع والدي عن فكرة انزالي لقتل الأفعى.
نزلت وفعلتها بسرعة، حيث لم أستمتع بإمساك الأفعى من رأسها كما كنت أنوي، وما زال صوت والدي رحمه الله يزلزلني، فهو رفع من حدة أوامره واختلف صوته وانتابه حذر بل فزع، انصهر في صوت تحذيري يصلني مضخما جدا بسبب الصدى الذي توفره جدران البئر الفارغة، وتتناوب العتمة على المشهد بسبب اغلاق البئر، حيث تدلى والدي بأكثر من نصف جسده من فوهة البئر، وهو يحذرني ويعيد أوامره كيف وأين أضرب الأفعى.
وانتهت المغامرة سريعا وبنسبة قليلة جدا من المتعة التي كنت انتظرها، وانتشلنا الماء، وثبتت تلك البئر في ذاكرتي، لتستقر كذكرى سيئة ومكانا مكروها بالنسبة لي، حيث سقط أحد أشقائي الصغار فيها وغرق بعد عامين من قتلي لتلك الأفعى.
هل نضب خير هذه البلاد فعلا أم هي الإدارة الضعيفة التي توهمنا بأن بلدنا فقير، ولا أمل في إنقاذه؟ أم تراها التشاؤمية والسوداوية التي يزخر بها خطاب المعارضة الضحل؟.
لا نريد (التلجيف) بحثا عن موارد بلدنا وإطلاق طاقات أبنائه، لأننا مقتنعون أن فيها مواردها الكافية وفيها عقولها القادرة على تفعيلها، وليس صحيحا ما يقال عن شح الموارد وفقر التراب، إنما الحقيقة أن هناك  إدارات عاجزة مغامرة، وثمة رهط ممن يديرون شأننا، اكتفوا بتحصيلاتهم الشخصية والموقعية، بينما بقية الناس محض متلقين خدمة شحيحة ودافعي ضرائب كرماء.
الخير في بلدنا وأهله وليس خارج الحدود، وأساس أزمتنا إداري ناجم عن عدم وضع الأردنيين المناسبين في مواقعهم لخدمة وطنهم.
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences