ربى عشا ورؤيتها لجثة في الجامعة

{clean_title}
الشريط الإخباري :  



كتبت الطالبة في كلية الطب  ربى ابراهيم عشا على صفحتها في وسائل التواصل الاجتماعي فيس بوك خاطرة عندما رأت جثة في الجامعة. واصفة واقع حياة الإنسان بمفردات بسيطة وعميقة لكنها حقيقية وتستحق التامل 
وتاليا ما كتبته عبر صفحتها.

وصلتُ متأخرةً بضعَ دقائقَ ، أخذتُ أركضُ كي لا ألقى توبيخاً في يومي الأول بمبنى الطِّب الشرعي ..
يدخلُ علينا الأطباءُ كلٌّ ترتسمُ على وجهه ابتسامةٌ أوسعُ من سابقتها و التفاؤل يملأُ محيّاهم ، رُبما كان ذلك ما هوّن عليّ قساوة تصوّري المُسبق عن هذا المكان ، 
يشرعُ أحدهم بقول " حظكم حلو وصلت جثة تحت ، شوي و بننزل" ، تلتفتُ أعيننا يمنةً و يسرةً بسذاجةِ من لا يعرفُ قادمَ أقداره ، غير مدركينَ لواقع ما سنشهدهُ ، تنظرُ أعيننا أخيراً صوب الطبيب مُعلنين شوقنا لما يخفيه " حظنا الحلو تحت " ! 
"تحت" .. سِرنا إليه بخطاً ثابتة ، ذاك الطرف الباردُ برود الموت ، الملئ بالكثير من الرّهبة ، الصّامتُ الذي تخرجُ منه و في عقلك الكثير من الكلام .. 
تتوسطهُ طاولةٌ معدنيةٌ صلبةٌ قستْ من كثرةٍ ما رأت ، باردةٌ بقدرِ ما يمرُّ فوقها من الأجساد ، طاولةٌ شهدت من الأسرار ما لا يُطاق و من الحكايات ما لا يُعد . 
عند دخولنا هذا المكان نسينا نزعَ مشاعرنا عند بابه فبَدونا مصفرّين ، خائفينَ ، محاولينَ الوقوفَ في أبعدِ نقطةٍ ممكنةٍ عن تلك الطاولة التي تعلوها جثةٌ لها رهبةٌ ما امتلكتها كل جيوش الأرض ، يابسةٌ زرقاءُ باردة تهزُّ فيَّ كل كلام الدُّنيا و مشاعرها ، و أُفكّرُ في ما لو دبّت فيها الروحُ و أفاق صاحبها فجأةً ! و عادَ ليتأفأف من حرّ الصيف و برد الشتاء ، من ملل يومه و كثرة أشغاله ، ليقلق من تأخر الراتب و ليسأم من زحمة المواصلات ! ماذا لو عادَ ليكرر جولته في الحياة بعد هذا الرقود أو ما الذي يتمناه في هذه اللحظة ! أعاود تأمل همادة الجثة التي أمامي و خلوّها من كل أمل للحياة فأتذكرُ حالي صباحاً راكضةً على عجلٍ لأصل في النهاية لهذا المشهد الذي أراه كما نركضُ كل يومٍ في هذه الحياة و سعيها متناسين هذا المشهد الأخير الذي ينتظرنا و ما بعده ..
هل هو القدر يلقنني درساً الآن ؟! 
يقطعُ سيل أفكاري صوتُ أدوات الطبيب و هو يشقُّ صدر الجثة و يُنشأُ الكثير من الفتحات في ذلك الجسد فيخطر في بالي تفاهةُ أثوابنا و اهتمامنا بمظهرها و دقّةُ خياطي هذه الثياب لتلائم أجسادنا .. البالية ! 
كُنّا واقفين فقال أحدهم : "هي أولها بعدين الواحد بتعوّد" 
و عقلي يقول " لا يمكن أن نعتادَ الموتَ مهما كَثُر .. مهما كَثُر " !

ربى ابراهيم عشا
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences