بين مطرقة الاحتلال .. وسندان التخوين
الشريط الإخباري :
بقلم ميساء ابو زيدان
تكاد لا تخلو جدران المنازل والشوارع وحتى منصات التواصل الاجتماعي حول العالم من صور ومصلقات مُزدانه بوجه الرمز الفلسطيني (ياسر عرفات) تعبيراً عن افتقادِه نهجاً يلتقي عليه كافة الوطنيين والأحرار.
في الوقت ذاته لم تفقد ذاكرتنا الجمعية قدرة استرجاع تلك المواقف التي تعرضَ خلالها لمحاولات التشويه والتشكيك بتوجهاته؛ فمن اتهامه بالتفريط بالحقوق الوطنية الفلسطينية فور توقيع اتفاق أوسلو مروراً بالتشكيك في أهليته الوطنية بعد أن توجه لتقديم العزاء لليئا رابين زوجة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق الذي اغتِيل على يد اليمينيّ اليهودي المتطرف يغئال عامير، وصولاً لاتهامه باستهدافه للعمل المُقاوِم وتخوينه حين كان يعلن عن إدانته لكافة الأعمال الإرهابية المُتستهدفة للمدنيين بكلا الطرفين بل أن البعض (الفلسطيني!) طالب بنفيه ومحاكمته في آخر حياته،
ياسرعرفات الذي تلقى شتى أنواع الاتهامات من قِبل الأقرباء والأشقاء والغرباء حتى الأعداء بثبات الحر المُدرك لطبيعة المسار الذي يسلكه. ذاتَ القدر تعرض له العديد من القادة الفلسطينيين أمثال الراحل صلاح خلف الذي كان يمثل الجانب الفلسطيني في اللقاءات التي كانت تُعقد بين منظمة التحرير الفلسطينية والولايات المتحدة الأمريكية في أواخر العِقد الثامن من القرن الماضي والعديد ممَن أدوا الأدوار التي تطلبت الاشتباك مع كافة الأطراف وحسبما فرضته عليهم مقتضيات كلِ مرحلةٍ خاضوها.
ما يدفعنا لاستذكار تلك المحطات وغيرها هي الزوبعة التي لا زالت تهيجُ بالجموع الطاهرة الرافضة لكل خروجٍ عن خيارِ الاشتباك المُسلح الدائر في الميدان مع قوات المُحتل الغاشم قلقاً من تشرذم يحيقُ بصفوفهم المُقاتِلة المتراصّة! ففي الوقت الذي تبلغ فيه المعركة ذروتها يتوجه بعض الفلسطينييون إلى تل أبيب للقاءٍ يجمعهم مع العدو ليطبِّعوا معه، بل أن البعض ذهب أبعدَ من ذلك ليتحدث عن تطبيقٍ فوري للشق الاقتصادي لِـ (صفقة القرن) في هذا اللقاء! فتنبري الأقلام الحرة للتخوين وتعلو الأصوات الثائرة لتنادي بضرورة عود ظاهرة اللثام والملثمين لتنفيذ القضاء الثوري في هؤلاء المُنسلخين عن الصف الوطني الواحد الموحد! في بروزٍ آخر لظاهرةٍ سِمَتُها الغالبة عندَ كل حدبٍ وطني أو صوبٍ مشتعل مَنحُ نياشين الشرف الوطني تقديراً أو سحبها تخويناً لنصبح وعلى ما يبدو أمام محاكمةٍ قضاتها قادة فيالق المعركة المحتدمة!
وهنا يبدو أن الموقف يفصِح عن التوق الدائم لديماغوجية الخطاب الذي يُنعش الأسماع دون الاكتراث لمدى صدقيتها أو إن جاءت تجسيداً لنهجٍ فعلي قائم فاعِل مُنجِز كما حالُ العديد من أبطال المنابر نهاراً. الحال الذي يعكس مستوى الوعي بطبيعة الصراع الذي نخوض ومدى المقدرة على توفيرنا وامتلاكنا للأدوات التي تَكفل لنا تخطي أبعاد الزاوية التي يجهد اليمينييون المتطرفون أتباع العقيدة الصهيونية حشرنا فيها ليحددوا لنا البعد الأوحد الذي منه فقط يجب أن يَتشكل منظورنا وتنطلق توجهاتنا بحيث نندفع لتبني الصيغ التي تُمكنهم من تعزيز روايتهم بأننا مجرد جموع بشرية تنحكم للعنف والتطرف ونبذ الآخر ولا تمتلك المقومات التي تُمكنها من مواكبة ركب الإنسانية والمجتمعات المدنية المتحضرة، وبأنه ولحماية الدين اليهودي يتوجب على العالم تقبل فكرة يهودية دولة إسرائيل كضرورة لحمايتها من هذه الجموع البدائية!
اللافت في هذا المقام هو سرعة التداعي بمثل هذه المواقف من قبل الجموع وبشكل يؤشر لحملات منظمة يديرها مَن يمتلك تفاصيل حالتنا الفلسطينية بحيث يتم تحويل العديد وبشكل غير مباشر لأدوات تخدم ما يَنشُده معدّيها، وإلا فلماذا يتم إمداد الجمهور الفلسطيني بمعلومات معينة حول مستجدات محددة وبأوقات حرجة، وبالمقابل يتم حجب المعلومات والحقائق حول مواقف تتم فعلياً بين الطرف الإسرائيلي وجهات فلسطينية معينة عن الشارع الفلسطيني ؟! وهنا يحضُرنا كيف تمّ عرض برنامج تلفزيوني حول زيارةٍ قام بها القائد الفلسطيني الراحل هاني الحسن لمدينته ومسقط رأسه حيفا في وقتٍ معين كان قد تجاوز زمناً طويلاً وقت الزيارة الفعليّ.
الأمر المؤسف بهذا الصدد لم ينحصر بمستوى لغة التخوين الخطيرة الأثر علينا كفلسطينيين بل أن شكل التعاطي مع الموقف دلّلَ على افتقاد العديد للجانب المعرفي بالمفاهيم الأساسية المتصلة بالموقف حيث أن التطبيع هو مصطلح سياسي يشير لعودة العلاقات لطبيعتها فور التوتر أو القطيعة وعبر اتفاقيات ومشاريع بين الطرفين المعنيين ولا علاقة له بالسلام كمبدأ. كذلك عدم إحاطة المُعظم بحيثيات اللقاء المُنعقد في تل أبيب والذي تم بدعوة من أعضاء برلمان السلام الإسرائيلي ليعلنوا كممثلين للأغلبية الصامته في إسرائيل للشعب الفلسطيني عن موقفهم الرافض لما سمي بِـ (صفقة القرن) إذ أنهم يعتبرونها كفيلة بتأجيج الصراع والعنف حيث أنها غيّبَت الفلسطينيين الطرف الأساس بالصراع وتنكّرت لقرارات الشرعية الدولية وبالتالي ستقضي على مقومات السلام العادل القائم على حل الدولتين، اللقاء الذي حضره عن الجانب الفلسطيني أعضاء في لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي التابعة لِمنظمة التحرير الفلسطينية والتي يشرف عليها قائد وطنيّ صلب يُصنَّف في الدوائر الإسرائيلية المغلقة كأحد أخطر العناوين الفلسطينية على إسرائيل. هؤلاء الأعضاء لم يذهبوا خلسةً لشراء الملابس من محلات تل أبيب ولم يتخفوا للسهر في نواديها الليلية، هؤلاء الذي كَفِلت لهم وطنيتهم الالتقاء بعددٍ من دعاة السلام المؤمنين بحقوق الفلسطينيين المشروعة كما باقي الشعوب، هؤلاء الذي لم يرددوا جهاراً : "ساق الله على أيام إسرائيل".
إن دروب التحرر الوطني تقتضي بالضرورة التزود بكافة المنهجيات والخيارات التي تضمن عدم الإنكفاء على الذات باتجاه الانفتاح لكل ما من شأنه الإنجاز والمُراكمة خاصةُ بظل صراعٍ من النوع الذي نخوضه مع هذا الاحتلال التطهيري العنصري لنتمكّن من مواجهة سياساته حيثُ يحرصُ ليلَ نهار على تمكين عناصره من إدراك التفاصيل الخاصة بهذا الفلسطينيّ على اختلافها مما مَنحه مساحة كبيرة من التفوق. وهنا يحضُرنا فلسطينييّان جسدا الفعل الفلسطيني المُتجاوز لرهان الاستعمار وقواه أحدهما كان فارس القدس الراحل فيصل الحسيني الذي أتقن اللغة العبرية إيماناً منه بضرورة مخاطبة الإسرائيليين مباشرةً فكهذا كانت تقتضي معركة الرأي العام بالنسبة له، ومن قلب كنسيت الكيان كان الآخر ابنُ الناصرة توفيق زيّاد يتصدى لِقوى اليمين المتطرف في إسرائيل فتصدح حنجرته ويصرخ في وجههم دوماً : " هنا على صدوركم باقون كالجدار.. وفي حلوقكم كقطعة الزجاج، كالصبار .. وفي عيونكم زوبعة من نار".