ممنوع من الكلام!!
الشريط الإخباري :
فارس الحباشنة — كنت تدخل الى المقهى لا تسمع غير ضجيج لكلام وحوارات مدوية وصاخبة وعالية. اصدقاء جالسون على الطاولات يلعبون الورق ويدخنون الشيشة والسجاير، وغمامة دخان تحوط سقف المقهى، ويشربون الشاي والقهوة واحيانا تبرد من حرارة الكلام، ويتضاربون بالكلام نميمة وسياسية واخبار عامة، ونكت وغيرها.
الكل دون استثناء يتكلم، وحتى صوت الاغاني والموسيقى يختطف سماعه عنوة وبالصدفة. الزبون الجديد وعابر الطريق ومن يدخل المقهى اول مرة مباشرة ينفضح امره، ولا يمكن لشخص ان يجلس لوحده صامتا، لابد ان يشارك في الكلام ومهما كان نوع الكلام، وان شاء الله الكلمات المتقاطعة وتوم جيري، المهم ان يخرج عن صمته.
الجمعة الماضية دخلت صباحا مقهى الشريف في شارع الجامعة. جلست على طاولة المعلم محمد الشريف، شربت فنجان قهوة «بدون سكر»، المقهى مليء بالناس، ولكنه هادئ، ولا يسمع غير صوت التلفزيون ورنات رسائل الواتس اب.
الناس كما يبدو ممنوعة / او تمتنع عن الكلام. طاولة مجاورة جالس اليها اربعة شباب قرابة ساعة لم اسمع احدهم يتحدث، الكل حاط رأسه في الموبايل والواتس اب، ولا يعرف ماذا يكتبون ويقولون هناك؟ وهل هم يشتمون احدا، ام يشكرون ويتذمرون، يدردشون في امور خاصة ام عامة؟ شربت كوب «شاي عجمي» في العادة اضع ملعقة سكر، لا احب السكر، ولانه لا يضيف الى الاشياء مذاقا مختلفا. وعداكم عن المحذاير الصحية لتناول السكر وخصوصا سكر المقاهي.
وحتى الجراسين زمان كانوا ينعشوا جو المقهى بالكلام، والجرسون يمشى لايصال الطلب يدندن لام كلثوم وفيروز وفريد الاطرش. وينادي باعلى صوته عندك واحد قهوة سادة وشاي عجمي سكر برا.
بتنهر الجرسون وتنادي باعلى صوتك، وتعطيه بقشيشا ولا يقول شكرا. يبدو ان الكل قد مل الكلام، وان ثورة الاتصالات و» السوشيال ميديا « اصابت حواس الاردنيين، وما عاد للنطق والسماع من مقام.
تخليوا لو ان الانسان يفقد حواس النطق والسماع ! مجرد تخيل يا رعاكم الله. جلست في المقهى لاذان الظهر، شربت فناجني قهوة سادة، وكوب شاي، وسألت الجرسون عن جرائد قال لي انهم بطلوا يجيبوها الى المقهى. سألته عن اصدقاء عتاق كانوا يجلسون في المقهى وهواتفهم المحمولة عادية على ما اذكر، قال لي انهم ماتوا او في غرف الانعاش ينتظرون الموت.
خرجت من المقهى، وفتحت المذياع وبدأت اردد اغاني، وانادي باعلى صوتي خوفا من اصابتي في رعاب الصمت ووباء الخرس القسري والاختياري. يعيش المقهى صراعا بين زمنين مقسومين على نفس الجيل، ولكن يبدو ان المسافة شاسعة، زمن كان يعيش بالكلام والثرثرة، وزمن يختفي منه الكلام وراء لوحات ومسطحات السوشيال ميديا.
الانسان في القرن الحادي والعشرين يبدو انه ليس معرضا لوباء الكورونا فحسب. ولكن مع التحولات والتطورات فثمة امراض نفسية واجتماعية وبيولوجية اخطر تهدد انسانيته قبل صحته وحياته.