تطواف وتأملات في رباعيات الشاعر سعيد يعقوب

{clean_title}
الشريط الإخباري :  

أ.د. أدي ولد آدب/ موريتانيا

الشاعر سعيد يعقوب.. حين تغمض عيني ذاكرتك عن راهنه، وشاهده، ملء السمع والبصر، وتدخل في قراءة شعره، تأخذك نصوصه في رحلة عبر الزمن العربي الجميل، معراجا في أبهى عصوره الأدبية الزاهية، وتطوح بك أصداؤها بين عكاظ، والمربد، وأجمل منابر الشعر الأصيل، في دمشق، وبغداد، وقرطبة وأخواتها، فتدخل- مرغما- في عملية استحضار لأرواح فحول الشعرية العربية الرفيعة المستوى، المكتملي الأدوات الثقافية للصناعة الإبداعية الراقية، فتتناغم أصداؤهم العابرة للقرون في سمفونية معاصرة رائعة، تفيق على عازفها ماثلا أمام عينيك، أنيقا ببذلة وربطة عنق: «شبيك لبيك»، ها أنا سيد الشعراء: سعيد يعقوب- بين يديك..

فإذا هو- في مسْرد عناوين دواوينه- يغرد- «خارج السرب» الشعري- «رنيم الروح»، ويُلَحِّن «رفيف الوجدان»، على إيقاع «نبض الروح» ذاتها، منشدا ومشيدا – في «ضجيج» الحياة-»بيت القصيد»، «في هيكل الأشواق»، راسما على جبين التاريخ «قسمات عربية»، «مقدسيات» تفوح منها -عبر «أنسام السحر»-»نسمات أردنية»، يتضوع منها «ندى الياسمين»، يتنفس «عبير الشهداء»، معلنا: «غزة تنتصر»، ذارفا -هناك- «دمعة وفاء»، تفيض بـ «أنداء وأنواء»، لها «رعود وورود»، تثمر «أعذاقا» تساقط رُطبا من لذيد الكلام، حلوة الجنى، و»أعلاقا» شعرية نفيسة من» الدر الثمين» ينسق عقدها حاليا في «رباعيات»، ليست داخل قصيدة واحدة، ذات موضوع واحد، مثل «رباعيات الخيام»، بل داخل ديوان مستقل باسمها، تتناسق فيه وتتساوق «رباعيات سعيد يعقوب»، عبر مئتي مقطع رباعي الأبيات، يمرن فيه جواد شاعريته الجموح، على الركض في المضامير الضيقة، مبرهنا – بفروسية شاعريته المعهودة- على إجادته للمطلع والمقطع، تحكما في بدايات الأشواط الإبداعية القصيرة ونهاياتها، زارعا داخل قيد الكم المحدد سلفا، حريات عديدة في المضامين، والأوزان، والقوافي، والأفكار، والتصاوير، تسمح باستعراض بهيج لألوان تجربته الشعرية الغنية الثرية، فصديقنا المبدع، شاعر طويل النفس، واسع الباع، مديد القامة الأدبية، لكنه- في شعْره- يهتم بالكيف، بدل الكم؛ حيث يُعَرِّفُ-هنا- رحْلتَه في مَعاريج الإبْداع بأنها «رحلة قلق»، يتفاعل فيها المد والجزر، والقبض والبسط، متمنيا لو يستطيع اختزال «طويل» الشعر، و»مديده»، ثم يبقى- مع ذلك- «كاملا»:

يَا لَيْتَ أَنَّ الشِّعْرَ بَيْتٌ وَاحِدٌ

لِأَقُولَ هَذَا البَيْتَ كَيْ أَرْتَاحا

لَكِنَّهُ نَزْفٌ طَوِيلٌ مَا لَهُ

حَدٌّ، جِرَاحٌ تَسْتَثِيرُ جِرَاحا

نعم، صديقي المبدع، ضعْ-مَزْهُوًّا- مرْساتك-مؤقتا- على «شاطئ الراحة»، بالعُدْوة القصْوى، من ضفاف بحور الشعر، ريثما تقلع في «رحلة قلق» لا تنتهي، عبر ديوان آخر، فقد حققتَ - الآن- هدفَك المَنْشود، في روح المتلقي/ة:

إِذَا قَرَأْت حُرُوفِيْ وَانْتَشَيْتَ بِهَا

فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْصَى مَا أُرَجِّيهِ

إِنْ أَعْجَبَتْك فَحَسْبِيْ تِلْكَ مَنْزِلَةً

عَلَى الوُجُودِ بِهَا أَزْهُو وَمَنْ فِيهِ

لقد عَمَّرْتَ «أبيات شعرك» الكثيرة -رغم أنف «جمع القلّة»- بـ «قصّة شاعر» خالد، يمثل رقما صعبا في معادلات الإبداع والتميز، راسما سجل أحاسيسك على مرآة ذاتك، فيض خواطر، ونبض مشاعر، تُتلى في «صحف مُنَشَّرَة، بأيدي كرام بَرَرَة:

وَأَبْيَاتُ شِعْرِيْ هُنَّ فَيْضُ خَوَاطِري

سِجِلُّ أَحَاسِيسِيْ وَنَبْضُ مَشَاعِري

وَمِرْآةُ ذَاتِيْ إِنْ تَصَفَّحْتَ أَحْرُفِيْ

رَأَيْتَ بِهَا مَا قَدْ أَجَنَّتْ سَرَائِري

وَحَسْبِيَ أَنْ خَلَّفْتُ خَلْفِيْ صَحَائِفًا

يُشِيرُ الذِيْ فِيهَا لِقِصَّةِ شَاعِرِ

وَلَمْ أَكُ رَقْمًا فِيْ الحَيَاةِ كَغَيْرِهِ

وَلَا مِثْلَ حُلْمٍ فِيْ النَّوَاظِرِ عَابِرِ

أيها الشاعر العظيم، أخيرا - بعد محاولاتك العديدة في هذه الرباعيات- أعلنت استحالة السيطرة على ماهية الشعر، والقبض على ناصيته العزيزة الأبية، بتعريف جامع مانع، فقلت:

وَالشِّعْرُ كَالرُّوحِ لَوْ رُحْنَا نُعَرِّفُهُ

يَظَلُّ تَعْرِيفُنَا رَجْمًا مِنَ الظَّنِّ

لكنني أعجبني فرارك هذا- وأنت الجسور- من تعريف الشعر، إلى تعريف الشاعر واصفا نفسك بأنك «المَجَازُ»

وَأَنَا المَجَازُ وَأُمُّهُ وَأَبُوهُ

عَنِّيْ تَلَقَّفَ سِرَّهُ أَهْلُوهُ

أجل الشاعر، والشعر- معا- منظومة من القيم الفنية والوجدانية المتفاعلة المتكاملة، في كيمياء الشعرية، لكن «المجاز» يبقى هو العنصر ألأكثر تميزا، وفاعلية في ماهية الشعر والشاعر.

وهنا ألتقط إشارتيْ «توقف» رفعتهما في وجهي «رباعيات سعيد»، حيث كتب على اللافتة الأولى، تحد تعجيزي، ينذر كل قارئ/ ناقد، يحاول مقاربته، ومقاربتها، بالغرق الحتمي في عباب محيطهما الزاخر:

لَكِنَّ شِعْرِيْ كَالمُحِيطِ وَمَنْ يُحِطْ

عِلْمًا بِهِ مَهْمَا رَوَى رَاوُوهُ

وَكَذَاكَ لِيْ لُغَةٌ يَعُزُّ مَنَالُهَا

مَا لَاثَ سِحْرَ بَيَانِهَا تَمْوِيهُ

واللافتة الثانية، تتولى عنا جميعا مهمة تقديم الشاعر/ المتنبي، الذي سمى نفسه – قبل قليل- بالمجاز، والمجاز- حقيقة- تجاوز وهجرة من المعنى الأدنى، إلى المعنى الأقصى، على صهوات البدائع، إلى سدرة منتهى المقاصد، والقصائد، حيث عرش إمارة الشعر، وكرسيّ دولته، أعدا أزلا لشاعر وحيد فريد تنظره الدنيا، سعيد الحظ باسمه ووسْمه:

خَلُّوا الطَّرِيقَ قَصَائِدِيْ مَأْمُورَةٌ

وَلَسَوْفَ تُنْزِلُنِيْ بِحَيْثُ تُرِيدُ

فَإِذَا نَزَلْتُ فَلِيْ مَقَامٌ شَامِخُ

عرْشٌ عَلَى شَعَفِ الكَلَامِ وَطِيدُ

لِيْ دَوْلَةٌ فِيْ الشِّعْرِ أَعْلَى رُكْنَهَا

حَرْفٌ عَلَى عِتْقِ الجِرَارِ جَدِيدُ

تَتَلَفَّتُ الدُّنْيَا إِلَيْهِ تَعَجُّبًا

إِنْ قِيلَ مَنْ هَذَا يُقَالُ «سَعِيدُ»

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences