هل هناك “إسرائيليون” جيّدون..؟
الشريط الإخباري :
هناك يهود جيدون. هناك، مثلاً، اليهود الذين يعتبرون أنفسهم فلسطينيين أصليين واقعين تحت احتلال غرباء -مثل طائفة "ناطوري كارتا” (أي "حارس المدينة”) الذين يرفضون الصهيونية وما تُدعى "دولة إسرائيل” جملة وتفصيلاً. وهناك يهود آخرون وُلِدوا في فلسطين لأبوين أو جدَّين من المستعمرين الأوائل، لكنهم كبروا وفهموا، فقرروا الخروج من هذا البلد المخلَّق والعصابي. وثمة يهود كُتاب ومؤرخون، يعيشون خارج الأرض المحتلة، ممن تدفعهم معرفة الحقائق والموضوعية إلى تفكيك الأسس الأيديولوجية والعملية التي قامت عليها دولة الاحتلال على حساب أصحاب الأرض الأصليين.
وهناك يهود –يعلنون انتماءهم لدولة الكيان الاحتلالي ويحملون صفة "إسرائيلي”- لكنهم يعربون عن تعاطف مع الفلسطينيين ويعارضون سياسات حكوماتهم، ويطالبون بحقوق للفلسطينيين. وهؤلاء يُحيِّرون حقاً. البعض منهم يطالبون بدولة فلسطينية في "الأراضي المحتلة”، التي هي في تقديرهم أراضي 1967 فقط. ويطالب بعضهم الآخر بدولة واحدة ثنائية القومية، يُمنَح الفلسطينيون فيها حقوقاً متساوية. بل إن البعض لا يمانعون عودة اللاجئين الفلسطينيين، معتقدين غالباً بأن أعداد العائدين لن تكون كبيرة بحيث لا يمكن استيعابها.
هؤلاء المنتمون إلى "معسكر السلام” أو "اليسار” في الكيان يمسُّون فينا عصباً عاطفياً. إنهم يخاطبون حاجة فينا إلى رؤية أناس من المعسكر الآخر يعترفون بالنقائص الكثيرة هناك وينتقدونها و”ينصفوننا”. ومن المؤكد أن ما يقولونه ويكتبونه يؤثر في الرأي العالمي أكثر من أصواتنا نحن. كما أن هؤلاء الناشطين يكونون متحمسين أحياناً إلى حد مشاركة الفلسطينيين احتجاجاتهم ووقفاتهم، ويبذلون الوقت والجهد، والشغف أحياناً، لما يعملون.
لكنّ هناك سؤالاً يشوش انطباعاتنا الأوليَّة: إن هؤلاء الناشطين من أنصار السلام في دولة الكيان الصهيوني يقيمون كلهم على الأرض الفلسطينية، ويسكنون بيوتاً إما بناها الفلسطينيون وهُجروا منها بالقوة، أو بنيت على أنقاض بيوت الفلسطينيين المهدومة -وبالتأكيد على أراضي الفلسطينيين. ماذا لو ذهب الفلسطيني صاحب الأرض والبيت وطالبهم بإعادة أملاكه إليه؟ هل سيحزمون حقائبهم ويعطونه المفاتيح، أم أنهم سيصرفونه أو يطلبون له الجيش؟
الذين يطالبون منهم بدولة فلسطينية في أراضي 67 (أقل من رُبع فلسطين التاريخية) يريدون إعطاء أصحاب الأرض غرفة صغيرة بلا أثاث في طرف الحديقة، وسيكونون بذلك مرتاحي الضمير. والذين يطالبون بمنح الفلسطينيين مواطنة متساوية، يريدون أن يجعلوا سكناهم في بيوت الفلسطينيين وأراضيهم المصادرة "مشروعة” ويتخلصوا أيضاً من تأنيب الضمير. وهم كلهم من أي طيف يتجاهلون –عن وعي كامل وسابق إصرار- مقدمات وجودهم هنا وكيفياته، والتي لا يمكن أن تكون مُخرجاتها عادلة.
إن كونك مواطناً في كيان احتلالي تأسس على الإلغاء الوجودي لشعب كامل لا يمكن أن يجعلك شيئاً سوى عضوٍ حيّ من جسد هذا الكيان باشتراطاته وبما هو عليه، والذي ينبض مع قلبه. وسوف تعني إعادتك الحقوق إلى أصحابها أن تتنازل عن المنزل المسروق والأرض المسروقة التي أصبحت لك بغير رضى أصحابها. وبخلاف ذلك، ستكون "أخلاقيتك” زائفة من أساسها. وربما يكون أقصى ما يصل إليه هؤلاء "الإسرائيليون” شيئاً من قبيل: "يجوز لي –ما دمت وجدتُ نفسي هنا، بغض النظر عن كيف- أن أعتبر نفسي شريكاً مع صاحب الأرض بأكثر من النصف، وأن أعتبر منحَه النصف –أو حتى أقل من الربع- تعويضاً كافياً وعادلاً ومريحاً للضمير، من موقع القادر المتفضِّل؟
أتساءل عما إذا كان أيٌّ من سلميي الكيان هؤلاء سيقبل بإعطاء الفلسطيني صاحب البيت سطح البيت الذي يحتله ليبني عليه طابقاً، أو يقاسمه نصف البيت والحديقة. أتصور أن أغلبهم لن يفعلوا. وكلهم لا يجدون تناقضاً حين يُكتَب عنهم: "تحدث إلينا الناشط الإسرائيلي (فلان) من حديقة منزله في حيفا” الذي له بالتأكيد مالك فلسطيني، أو للأرض التي أقيم عليها. إنهم يقبلون باستعمارهم فلسطين التاريخية كـ”أمر واقع” يحتاج إلى تجميل بسيط فحسب.
لا أعرف ما إذا كانت مطالبتنا لهؤلاء بأكثر من ذلك عادلة، من منظورهم، وهم يرون أنفسهم متقدمين كثيراً عن نظرائهم الإقصائيين المتطرفين. وليس الأمر إلقاء اليهود في البحر، فلهذه المسألة حل آخر، لكن الأكيد أن مطالبة الفلسطينيين بأملاكهم ووطنهم التاريخي عادلة وفق أي معيار. وقد واجه بعض "الإسرائيليين” السؤال الوجودي بأمانة، فمزقوا هوية الاحتلال وغادروا، رافضين أن يكونوا خلايا في جسد كائن يعيش على الافتراس.