ما-بعد 11/ 9.. عالَم بالغ البشاعة..!
الشريط الإخباري :
استغرقت أحداث 11/9/2001 في نيويورك ساعات على الأكثر. لكنها خلخلت العالم كله وغيّرته مثلما فعلت حربان عالميتان استمرتا لسنوات. لم يعد العالم في اليوم التالي كما كان أبداً، حتى أن حقبة جديدة نشأت باسم (Post-11/9)، أو "ما-بعد 11/9”. وما تزال تداعيات تلك الساعات تتخلل كل دقيقة منذ 18 عاماً، وتغير مصائر ملايين الناس في مختلف أركان الكوكب –وخاصة نحن في الشرق الأوسط.
قسم عالَم ما-بعد 11/9 العالم بحدة بين مسلمين "أصوليين”، "إرهابيين”، و”عدوانيين”، وغرب "متحضر”، "ديمقراطي”، "ليبرالي”، "منفتح” و”إنساني”. وعبرت هذه القسمة عن نفسها في حروب مباشرة وأعمال عدائية خاضتها الدول والفاعلون من غير الدول، والأفراد.
آذن 11/9 بعودة الاستعمار المباشر إلى الشرق الأوسط، في شكل احتلالات مباشرة لكل من أفغانستان والعراق. ولأول مرة، كررت الولايات المتحدة تجربة الإمبراطوريات الكولنيالية بوجود عسكري مباشر بعد أن اكتفت قبل ذلك بالهيمنة علينا من بعيد، عن طريق الوكلاء المحليين وشرطيها في المنطقة، الكيان الصهيوني. وبالنسبة للعرب، أحدث احتلال العراق صدمة شديدة وافتتح سلسلة من التطورات بالغة الرداءة، وعمق مشاعر الهزيمة التي بدأها التدخل الدولي بقيادة أميركا في حرب الخليج الثانية. وأدى الاحتلال إلى تخريب العراق ومقدراته، وتفتيت مجتمعه وبنيته المادية والبشرية، ومصرع أعداد لا تحصى من أهله، وجعل منه بيئة حاضنة لفرز جديد ودموي طال المنطقة، وأبعد.
على الأقل، أنجب عراق ما بعد الاحتلال ظاهرتين مدمرتين، واللتين تجاوزتاه إلى الإقليم وبقاع بعيدة غير متوقعة من العالم: أولاً، تفتيت الهوية إلى هويات عرقية وطائفية وقبليَّة انخرطت في صراع دموي غير مسبوق. وتجلت هذه التقسيمة بأفظع صورها في العنف الطائفي السُّني-الشيعي الرئيسي، الذي فرَّخ ضياع الأقليات الصغيرة تحت الأقدام؛ وثانياً، صعود الأيديولوجيات المتطرفة العنيفة وما أنجبته من تنظيمات على رأسها "القاعدة”، وخلفها، "داعش”، مع العشرات من التنويعات الوحشية. وتسببت هاتان الظاهرتان، وما تزالان، في سفك دماء الأبرياء في المنطقة وخارجها، في أماكن تمتد من فرنسا وبلجيكا، إلى مالي ونيجيريا، إلى الفلبين وسيريلانكا، وأفغانستان وباكستان وإندونيسيا وتركيا، والكثير غيرها.
ساهمت أحداث 11/9 وما صاحبها من تنميط سلبي للإسلام والمسلمين، في مساعدة صعود اليمين الشعبوي والقومية المتطرفة في أوروبا والولايات المتحدة. واستفادت هذه المعسكرات من نمو اتجاهات الخوف من الأجانب والمهاجرين وكراهيتهم –خاصة المسلمين. وتغيَّرت بحدة ملامح المشهد السياسي المحلي في دول كثيرة، والتي شهدت وصول الشعبويين والقوميين المتعصبين إلى السلطة بطريقة غير مسبوقة، مستغلين مشاعر الشك الجديدة التي هيمنت على مواطنيهم.
في منطقتنا، كان الكيان الصهيوني مستفيدا واضحا في حقبة ما-بعد 11/9. وطرح نفسه كشريك مباشر للولايات المتحدة في "الحرب على الإرهاب”، مضيفا المقاومة الوطنية -على طريقته- إلى معسكر الإرهاب بمباركة أميركية. بل إنه تمكن من حشر نفسه في الاصطفافات الإقليمية الجديدة، في "تحالف مصلحة” مع دول عربية مهمة على أساس الفرز الداخل-إسلامي، السني-الشيعي، الذي هو ليس طرفا فيه. واستغل الكيان العداوة الجديدة لتطبيع نفسه في المنطقة، وتفتيت أي بقايا لتوافق عربي، وتعزيز هدفه الرئيسي المتمثل في تصفية القضية الفلسطينية.
لم تقتصر آثار 11/9 على الشعوب التي فُرزت كأهداف للحملة الانتقامية الأميركية-الغربية. ثمة أيضاً آلاف الغربيين والأفارقة والآسيويين الذين فقدوا أرواحهم أو استقرارهم، إما مباشرة في ميادين "الحرب على الإرهاب”، أو في التفجيرات والعمليات الانتحارية والغزوات الانتقامية المدفوعة بأيديولوجيات عززتها حقبة ما-بعد 11/9. كما اختبر الناس في كل مكان ظاهرة صعود "دولة المراقبة” البوليسية، التي استهدفت حريات المواطنين وخصوصياتهم في كل مكان بذريعة حفظ الأمن ومكافحة الإرهاب. وقد أصبح الأفراد، في الكثير من الأماكن، موضوعاً للتطفل وتعقب بياناتهم وأنشطتهم وتفتيش حوائجهم والتضييق عليهم في الحدود والمطارات ومعاملتهم كمشتبه بهم إلى أن يثبت العكس.
بعد 11/9، ثارت نقاشات- على مستوى الكوكب- واقتُرحت عشرات التعريفات الجديدة لما كان في السابق أشبه بمسلمات أخلاقية أو دستورية، مثل مشروعية التعذيب، أو حدود الخصوصية مقابل الضرورة الأمنية، أو أخلاقية القصف الشامل العشوائي، أو التدخل الاستعماري بذرائع إنسانوية. ولدينا هنا، انفتح نقاش، يخاض أغلبه بالبنادق والشجارات والنفسيات المتوترة، لتعريف هويتنا نفسها التي تناثرت مع ركام برجي نيويورك، ولم تُستعاد أجزاؤها بعد.