انطباعات من بغداد
الشريط الإخباري :
نضال منصور
كنت مُتلهفا لزيارة بغداد بعد آخر زيارة لي قبل ثلاث سنوات، وزاد من أهمية هذه الزيارة أنها جاءت بعد يوم واحد من انعقاد مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة.
زيارتي السابقة إلى بغداد العام 2018 جاءت بعد انقطاع دام 25 عاما، وحين كنت أتجول في شوارعها بين الحواجز الإسمنتية المنتشرة كإجراء أمني لم أخفِ خيبة أملي للمرافقين لي من شبكة الإعلام العراقي، فبغداد التي تركتها قبل ربع قرن إبّان حكم نظام صدام حسين لم يُعمّر بها شارع جديد.
في رحلة الطائرة القصيرة إلى بغداد كنت أمنّي النفس أن تكون بغداد بحال أفضل اليوم، فالرسالة السريعة التي قدمها مؤتمر بغداد أن العراق ينهض ويستعيد مكانته الإقليمية، ويستطيع أن يلعب دورا في ترميم علاقات دول الجوار بعد أن كان ملعبا، وساحة لتفريغ الصراعات، وتصفية الحسابات.
طوال 3 أيام كنت أستمع في ملتقى الرافدين الذي دعوت لحضوره إلى سجالات قادة العراق، وجلهم يدركون الصعاب التي تمر بها بلادهم، لكنهم لا يتفقون على خريطة طريق لاستعادة دولتهم من أتون الصراعات المذهبية، وغير قادرين على انتشالها من حالة الفساد والخراب التي عاشتها منذ سقوط النظام العام 2003.
كلما حاولت أن تقفز من الواقع السيئ، وتراهن على أن التغيير قادم، يُعيدك انقطاع التيار الكهربائي أكثر من مرة في اليوم وفي فندق خمس نجوم إلى المربع الأول.
يقف العراق على مفترق طرق بعد عامين على حراك تشرين الذي وئد، وظلت مطالب وأصوات المحتجين في ساحاته حاضرة، وتعمقت الأسئلة المقلقة مع اقتراب الانتخابات التي ستعقد في العاشر من شهر (أكتوبر) المقبل.
أكثر من انطباع خرجت به بعد زيارة استمعت خلالها لسيل من الشعارات والخطابات جاءت على لسان القادة المتهمين من قبل الناس أنهم سبب كل هذا الدمار في العراق.
أول الانطباعات التي يلمسها كل من يقترب من الأدبيات السياسية أن الدولة العراقية الجامعة غائبة، وأن الهويات المذهبية تتصدر المشهد، وأكثر ما يُقال على لسان العديد من الزعماء ليس أكثر من خداع مكشوف.
الانطباع الآخر أن الولاء للعراق لا يحتل المرتبة الأولى عند من يتقدمون صفوف القيادة، ولهذا فإن السؤال الحاضر دائما عن علاقات بعض الزعماء العابرة للحدود وتأثيرها على مستقبل العراق.
الأكثر حضورا من الاستنتاج والانطباع أن العراق مرهون برؤية المرجعيات الدينية، فهذا يعلو على الدستور، وعابر للمذاهب تسليما أو خوفا، وتصبغ عليه القدسية، وهذا يدفعك للتفكير في الحدود الفاصلة بين الدولة الدينية، والدولة المدنية؟
الكارثة الكبرى التي تراها تلاحقك في كلام الناس في العراق تدور حول الفساد واستشرائه، والأمر لا يحتاج براهين وأدلة في بلد غني مثل العراق، فمنذ الاحتلال الأميركي وسقوط النظام لم تشهد البلاد إعمارا، والطرق ظلت كما هي، والمستشفيات والمدارس على حالها بل تراجعت، ورغم ذلك أنفقت مئات المليارات من الدولارات على مشاريع وهمية ذهبت لجيوب من أداروا العراق واستأثروا بحكمه.
إذا كان من ثمرة لهذا التحول في العراق طوال ما يقارب 20 عاما مضت فإن حرية التعبير هي المكسب الأساسي بعد سنوات من تكميم الأفواه.
ما يجدر ملاحظته أن العراقيين والعراقيات ما عادوا يهتمون بذلك، ولا عادت تطربهم أو تغويهم الشعارات، أو تكاثر وتناسل الأحزاب والكتل السياسية، فهم يدركون في نهاية الأمر أنهم خارج المعادلة، وأن الزعماء يتقاسمون المغانم، وحين قرروا الاحتجاج على اختطاف وسرقة بلادهم في حراك تشرين كان الرد والجواب رصاصة في صدور المتظاهرين، فسقط مئات الشهداء، وهرب الآلاف خوفا على حياتهم، وأفلت الجناة من العقاب، وقد يكون بعض المتورطين بالجرائم، أو المُحرضين عليها ما زال زعيما مُلهما رغم أن يديه غارقة بالدماء.