ليست شهقة حسد
الشريط الإخباري :
ماهر أبو طير
يأتي مطرب ما إلى الأردن، وتباع تذاكره بأسعار مرتفعة جدا، تبدأ من 300 دينار، الى 85 دينارا، وأصحاب الرقم الأول سوف يجلسون في الصف الأول، فيما سيقف أصحاب الرقم الثاني، فلا مقاعد لهم، وبين الرقمين، سلسلة متدرجة من الأسعار من 220 الى 150 دينارا.
تقرأ التعليقات على الحفل، فلا تكتشف أي جديد، إذ إن اللوم الاجتماعي بلغ اعلى درجاته، ليس بسبب الشعور بالحقد الطبقي، ولأن هناك عشرات آلاف العائلات تعيش بأقل من مائتي دينار شهريا، وبعض العائلات لا يدخلها أي دخل، فالأب عاطل عن العمل، ومعجنهم بلا قمح.
الأردن تغير، والفقر الذي يأكل وجوه الناس، يثير غضبهم حين يتابعون اخبار الحفل، وقيمة تذاكره، وبعضهم يقول اننا لو كنا في حفل خيري، او امام دعوة لكفالة الايتام، او تعليم الطلبة، او علاج المرضى، لما دفع احد هذه الأرقام، ولهرب الكل، دون أي مساعدة او مشاركة.
القصة هنا، ليست المطرب، ولا الأسعار، في هذه الحفلة حصرا، هي قصة التغيرات الاجتماعية التي لا يأبه بها احد، ونحن ندين باعتذار لليسار السياسي، الذي كنا ننتقده دائما، لان العدالة مهمة، والتفاوت الطبقي الذي يعبر عن تغيرات في المجتمع بات واضحا وكبيرا، وهو امر لا يقف عند أسعار الحفلات، بل يمتد حتى الى صناعة طبقة اردنية تعيش بطريقة تختلف عن بقية الأردنيين، لهم مدارسهم، وجامعاتهم خارج البلد، ولهم بنيتهم الاقتصادية الخاصة، عبر القطاع الخاص، ولهم آفاق تختلف عن غالبية الأردنيين، الذين يعانون من كل ظروفهم.
أنت هنا لا تشعر بالغل الطبقي، من باب التحاسد، لكنه السؤال حول البلد الذي تغير بسرعة، بعد ان كنا مثلا في الثمانينيات، نتقارب جميعا، والى حد كبير في مستويات الحياة والتعليم، وطريقة الانفاق، لكن التغيرات الاجتماعية الاقتصادية، صنعت طبقية مذمومة، في كل الأحوال، وهي كما اشرت لها كلفتها، ولا تعبر هنا، عن التحاسد، او الغيرة، او الكراهية.
ليس من مصلحة أي بلد ان يفقد عناصر توازنه الأساس، أي عبر حماية الطبقة الفقيرة، ومساعدتها للخروج من الفقر، وعبر حماية الطبقة الوسطى، من اجل ادامتها، والذي يحدث عندنا هو العكس، الفقراء يزداد عددهم والتوقعات تشير الى احتمال انضمام مئات الآلاف الى خانة الفقر، فيما الطبقة الغنية، تتمحور حول نفسها، ومعزولة عموما عن المجتمع، ولها معاييرها، وقواعدها، ومفصولة في بعض الحالات عن كل الجسم الاجتماعي، بحيث بتنا اليوم امام فروقات هائلة، ساعد الانفتاح الاقتصادي، وسيطرة رأس المال، والاستهلاك، على تعميقها، مقلدين في ذلك مجتمعات عالمية، وآسيوية، فيها طبقات ثرية واسياد، وطبقات مهمشين وضعفاء، لا حول لهم ولا قوة، وبينهما خطوط فاصلة باتت مقدسة ومعروفة للكل.
سيأتيك من يقول ان من حق الغني ان يفعل بماله ما يشاء، وسيأتيك من يقول ان الغني قد يتصدق سرا، ولا يشهر ذلك، ويدفع زكاة ماله، او يساعد غيره، دون اشهار، فلماذا نكرس التحاسد الطبقي هنا، والكلام هنا قد يكون صحيحا، حتى لا نظلم الناس، إذ لا يجوز ان يكون الثراء تهمة، او يتعرض صاحبه للغمز من قناته، او مس كرامته، لمجرد انه ثري، خصوصا، اذا كان ماله حلالا، واذا كان في ماله لله، وهذا امر خاص بينه وبين خالقه.
لكن مهلا، ما نتحدث عنه هنا، هو إنتاج أردن جديد، بالمعايير الاجتماعية، وليس مجرد اطلاق شهقة حسد بسبب سعر تذكرة حفل مطرب، ولعلنا نسأل هل هذا هو الأردن الذي نعرفه، أم أننا أمام أردن جديد، بالمعنى الاجتماعي، بما يعنيه ذلك على صعيد الامراض التي تدب في المجتمع، والشعور بالحرمان والفقر والحاجة، وعدم وجود حلول او آفاق او فرص، وكأننا نستولد الغضب الأشد، دون ان نعي ان تغير هوية المجتمع بهذه السرعة والطريقة، سيؤدي الى انتاج مشاكل جديدة، لن يحتملها المجتمع ذاته، الذي يقول بعض من فيه، ان هذه خصوصيات، وان من حق كل انسان، ان ينفق ماله كما يشاء، دون ان نبادره بضيق العين.
تفكيك البنية الاجتماعية، وإعادة انتاج الهوية والبلد، خطير جدا، وبدون مشروع يرد التوازن الاجتماعي الاقتصادي الى الداخل الأردني، فعلينا ان نتوقع فواتير سوف تتنزل علينا.