نحو المربع الأول
الشريط الإخباري :
عامر طهبوب _لا دولة عربية يجيد قادتها من عسكريين أو سياسيين، إعادة شعبها إلى المربع الأول أكثر من السودان، ولا دولة انقلب فيها العسكري على المدني من أجل الديمقراطية، ولا دولة تتبادل التعددية بمفهومها المتناحر بين السياسي والعسكري أكثر من السودان، ولا دولة وقعت فيها انقلابات في العالم العربي أكثر من السودان، الفارق بين انقلاب وآخر، أن بعضها يأتي كامل الدسم، وآخر قليل الدسم، بعضها ينجح بأقل نسبة من إزهاق الأرواح، وبعضها حول الخرطوم إلى برك من الدم.
بدأت المسيرة الديمقراطية في السودان منذ اليوم الأول لاستقلالها عن بريطانيا في الأول من يناير عام 1956، وقامت أول حكومة ديمقراطية منتخبة في ذلك العام، إلا أن أول محاولة انقلاب، وقعت في نفس ذلك العام، حيث قاد المحاولة الفاشلة اسماعيل كبيدة على حكومة إسماعيل الأزهري.
ومنذ انقلب إسماعيل على إسماعيل، انقلب السودان على نفسه، ففي 17 تشرين الثاني 1958، نجح انقلاب إبراهيم عبّود على حكومة ائتلاف ديمقراطي بين حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي برئاسة مجلس سيادة مكون من الأزهري وعبد الله خليل. شكل الانقلابيون حكومة ديكتاتورية امتد حكمها سبع سنوات قبل أن يقوم الرشيد الطاهر بكر المحسوب على الإسلاميين بانقلاب على عبود ، لكن الانقلاب فشل، وأعدم عبود خمسة من القادة العسكريين، وسجن الآخرين في سجن «كوبر» إلى أن أطاحت بعبود ثورة شعبية في تشرين الثاني 1964، وجاءت بحكومة ديمقراطية، إلا أن انقلاباً وقع في أيار 1969 قاده جعفر النميري الذي حكم البلاد لمدة 16 عاماً، وأدت انقلابات فاشلة في عهده إلى تحويل الخرطوم إلى برك من الدم، فقد قاد هاشم العطا انقلاباً في 19 أيار 1971 استولى فيه على الخرطوم لمدة يومين، قبل أن يستعيد النميري الحكم، وينصب المشانق التي عُلّق عليها عبد الخالق محجوب، وأحمد الشيخ، وبكر النور، وآخرين غيرهم.
عام 1975 فشلت محاولة انقلابية أخرى قادها حسن حسين الذي لقي حتفه رمياً بالرصاص، قبل أن تفشل محاولة انقلابية أخرى في الثاني من تموز 1976 أُعدَم فيها قائد الانقلاب محمد نور بعد أن تحوّلت الخرطوم إلى ساحة معارك أسفرت عن مقتل المئات.
عصفت بالنميري ثورة شعبية في السادس من نيسان 1985 عرفت بانتفاضة إبريل. تناحرت الأحزاب على الحكم، فجاء انقلاب عمر البشير عام 1989 بمساعدة الإسلاميين، وفشلت عدة محاولات للانقلاب على نظامه من ابرزها انقلاب رمضان عام 1990 بقيادة عبد القادر الكدرو، انتهى بإعدام 28 ضابطاً في الجيش، إلى أن جاءت ثورة التاسع عشر من كانون الأول 2018 بسبب ارتفاع الأسعار، وغلاء المعيشة، واستمرار الحرب في عدة أقاليم، وتم عزل البشير.
اليوم نشهد بعد ثلاث سنوات من محاولات الانتقال نحو الحكم الديمقراطي، انقلاباً من نوع جديد، يحفظ ثورة ديسمبر، ويصحح مسار الثورة، ويلغي العمل بسبع مواد من الوثيقة الدستورية، مع التأكيد على الالتزام بنصوص الوثيقة. انقلاب من نوع جديد حلّ فيه رئيس مجلس السيادة الانتقالي الحكومة، وحل مجلس السيادة، وأعفى الولاة، وجمّد عمل هيئة إزالة التمكين، وأعفى وكلاء الوزارات، واعتقل رئيس الحكومة عبد الله حمدوك وزوجته، واعتقل عدداً كبيراً من الوزراء، وأعلن حالة الطواريء، لكنه أكد على التمسك بالوثيقة، وعلى عزمه تأسيس برلمان ثوري للشباب، علماً بأن فكرة العمل البرلماني لا تقوم على أسس ثورية.
اليوم يؤكد عبد الفتاح البرهان أنه «في نصف قرن من الزمان، وقف العالم ثلاث مرات ليكتب في تاريخه أن الشعب السوداني رفض أن يحكمه فرد أو فئة لا تؤمن بالحرية والسلام والعدالة»، وأنا أؤكد أن الشعب السوداني العظيم، لم يحظ في تاريخه بقائد واحد مخلص، ولم يحظ في تاريخه بفرصة لالتقاط الأنفاس. الشعب السوداني البالغ عدد سكانه 40 مليون نسمة، يمتلك 40 مليون رأس من الأغنام، و 30 مليون بقرة، وما زال يعاني عديد من أبنائه من فقر الدم ونقص الألبان، فيما تمتلك هولندا مليون بقرة حولتها إلى جنة عدن.
استخدم «البرهان» كلمة «مشاكسة» ارتكبها فرقاء سياسيين أدت إلى ما اتخذه من إجراءات. هذا أمر عجيب غريب. وقف الشباب أمام مبنى قيادة الجيش قبيل خطاب البرهان في محاولة لمؤازرة الدولة المدنية، إلا أن الجيش فاجأهم من الخلف قادماً من «كوبري كوبر» بالرصاص الحي، وسقط العديد من الجرحى. هذا أمر غريب.
أدمن الشعب السوداني المعاناة، وأدمن الحكمة، والعودة للمربع الأول، ولم يألف العمل بالديمقراطية، فأحدهم يهاجم الشيوعية، علماً بأن لينين، وستالين، وخروتشوف، وأندروبوف، وغروميكو، وبريجينيف، «صارت عظامهم مكاحل»، وسقط الاتحاد السوفييتي، وآخر يريد الحكم الإسلامي مستشهداً بالآية الكريمة: وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون.
السودان على شفا فوضى، والأسلوب الذي يدار به حكم البلاد، لن يؤدي إلى تحول ديمقراطي، قال لي صديقي الدكتور ظافر العاني بالأمس، وهو نائب في البرلمان العراقي لمدة 11 عاماً، أنه - أي العمل الديمقراطي - على معاناة الوصول إليه، إلا أنه أفضل أسوأ نظم الحكم على الإطلاق. حفظ الله السودان الشقيق وأهله