نحت في الذاكرة .. نعش المعرفة .. قضيتنا لـ "حسن البنا" في كلمات
الشريط الإخباري :
سليم النجار
إن نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين- في العالم العربي ومصر- خلقت ذاكرة أخرى، غير التي أفرزتها المنطقة خلال القرون الطويلة الماضية، وذلك لوجود الاستعمار ومحاولة طمس الهوية الجغرافية والتاريخية، كما فعل حسن البنا في كتابه" قضيتنا" الذي أقرّ بأن المواطن العربي قاصر ويحتاج إلى دعوتهم، (ولكن ضعف في أساليب التربية وسوء في معاني التوجيه وخلو من الأهداف والآمال فجاءت دعوة الإخوان تحارب هذا كله)، أي أن لغة الحرب هي أساس دعوتهم، ومن نافلة القول أن الحرب ستشن على المجتمع والدولة لتحقيق أهدافهم حسب تعبير البنا، وغَفِل عن أن هناك حراك ثقافي واجتماعي في مصر يطالب بالتغيير لكن دون شن الحروب، هذا الإقصاء وعدم الاعتراف بالآخر هي فلسفة الإخوان المسلمين، ولو وجهنا إليهم هذا السؤال، ماذا يقولون في حالة الحراك المعرفي النشطة التي بدأت في عهد محمد علي؟ وكانت في ذات الوقت تتمسك بمكوناتها الاجتماعية والتاريخية والفلسفية ولكن على أساس متقدّم وفاعل، ولما كانت الثورات والبعثات الدراسية محركاً للحفاظ على الموروث الحي للذاكرة، ومحاولة لمعرفة تيارات العالم الحديثة، التي بدأت في عهد محمد علي ورفاعة الطهطاوي ولويس عوض، والمحاولات الفكرية لا تهدأ وإن أصابها العطب في أحيانٍ كثيرة، فهي لم تتوقف، فكانت النهضة والإحياء والترجمة عوامل التجديد الدائم، ثَّم خرج الجيل الذي سُمي بالعقل النقل، طه حسين، العقاد، سلامة موسى، عبدالمنعم سبعاوي، إسماعيل مظهر، ..إلخ، وحماسة البنّا المنقوصة التي تُغيّب هذا التاريخ الاجتماعي المعرفي التنويري، لم تأتي من باب المصادفة بقدر ما هي إلا عدم رؤية الفاعل الحقيقي لحركة التنوير، لأنه لم تخرج ثقافته من البيئة المحدودة التي عاش فيها، وهذا القول ليس من باب التجنّي، فكلماته هي التي تشي بذلك، (لقد أعلن الإخوان في الناس أن الإسلام نظام اجتماعي متكامل فهو ليس ديناً فقط بالمعنى الذي قررته النظم الأوروبية في الأذهان مقتصراً على المعابد والصوامع والخلوات، ولكنه دين دولة ونظام كامل للحياة بتناوله كل شيء في مجتمع المؤمنين به والمفتديين له)، فالبنا يتعامل مع التاريخ الإنساني بالقطعة، ولا يعرف أن التاريخ الإنساني هو تاريخ التقدم نحو الحرية ومزيد من المساواة، ومزيد من التسامح، ومزيد من المعرفة، وأن كل الكتابات التاريخية التي تناولت التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفلسفي للبشرية قائمة على هذه القواعد.
ووقع البنا في نفس فخ العلمانيين العرب وإن كانا في الشكل مختلفان لكن في المضمون متفقان تمام الاتفاق، فالأول تعامل مع التاريخ بشكل انتقائي وبما يخدم فكرته المتعصبة، والثاني تعامل مع تاريخ عصر التنوير الأوروبي بانبهار، ولم يتابعوا عن قصد أو جهل المراجعات التي حصلت في الغرب نفسه، فنظرية داروين على سبيل المثال لم يُعد يُنظر إليها بعين التقدير العلمي كما كانت، وشك ديكارت أصبح من عتيق الفلسفة، وكان من الأجدى بالعلمانيين الروّاد أن يمزجوا حماسهم للتنوير الغربي بشيء من مراعاة الملاءمة لتنوير منبثق من واقعنا الروحي والمادي، فقد كان ذلك خليقاً بإبداع تنوير قادر على التواصل والتراكم والوصول بنا إلى شيء آخر غير الذي وصلنا له. ويواصل البنا انتقائه من التاريخ العربي الإسلامي، ما يعزز وجهة نظره التي لا علاقة لها لا بالوعي ولا بالمعرفة، وفي أحسن الأحوال تصلح لطلاب الابتدائي فهل أتجنّى عليهم! فحتى هذا التمني غير موفق، عندما يقول: (وليست هذه الفكرة جديدة في الحقيقة لأنها طبيعة الإسلام الذي جاء به رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم عن ربه فأنشأ ديناً وأحيا أمّة وأقام دولة وأسّس حضارة دونها كل الحضارات). هذا الإمعان في ممارسة التزييف للتاريخ السياسي العربي الإسلامي ليس جديدا على الإخوان المسلمين، وهم غير بارعين في هذا النمط من الكتابة، ولو تمهّل البنا علينا قليلاً وسألناه عن قيام الدولة الأموية هل كانت دولة إسلامية وينطبق عليها الشروط التي نادى بها البنا؟ وهل الخلاف بين معاوية وعلي خلاف ديني؟ وهل قيام الدولة العباسية تنطبق عليها الشروط التي طالب بها؟ وهل حالة التباهي التي تملكت البنا وهو يكتب بأن الحضارة الإسلامية قد تعدّت وتجاوزت كل الحضارات التي سبقتها كما زعم، وبما فعله العباسيين عندما أسسوا دولتهم القبليّة وقاموا بنبش قبور الخلفاء الأمويين وتعليق عظامهم، وهل سيتباهى أيضاً بما فعله يزيد الخليفة الأموي بمكة؟ وهل؟ وهل؟ وهل؟ أم حسب سياق حديثه إن كان يمتلك الحد الأدنى من المنطق بأن هؤلاء "كفار"!! وسؤال آخر يستتبع هذه الأسئلة، هل تجرّأ البنّا قول السبب الحقيقي لقتل ثلاثة خلفاء راشدين كانوا عماد الدولة العربية الإسلامية إبّان دعوة سيدنا محمد عليه أفضل السلام؟ والتي بشّر بتقليدها واستنساخها!!
ويتابع البنا دعواته بالتعريف بالإخوان وبإفراط ذكوري محض عندما يقول:(فنشأ جيل عزيز كريم مغامر لا يبالي أن يذهب إلى أقصى الأرض في سبيل مختار على قصر المدة واضطراب الظروف والأحوال، فيلقى الموت باسماً كأنه يزف إلى عروس ويقدم للجهاد)، أليس هذه المقولات غريبة على النفس البشرية، عندما يساوي بين الموت والرغبة الإنسانية، والسؤال لماذا هذه الكوميديا السوداء والتشبيه البلاغي غير الموفق؟، وبعد إذنه ألا يسعف العريس بعض الوقت للدخول على عروسه وبعدها يذهب الى ما دعا له البنا، إلى أقاصي الدنيا، أي إلى المجهول!
أما الخاتمة التي بها يكتمل النموذج للتزييف واستغفال الوعي واستهبال القرّاء لفصله الرابع الذي حمل عنوان (ماذا قدّم الإخوان لوادي النيل والعروبة ووطن السلام) فهي طريفة ومدهشة، لا لأنها تؤكّد مهمة التلفيق التي يقوم بها نموذج التزييف بين مركزية الإقصاء للإخوان وتعدديتها، ففي التزييف عند تناولهم أي حادثة تاريخية كما فعل البنا ورسم بطولات من وهم؛ عندما جاء على ذكر فلسطين وعدّد بطولاتهم التي لا يعرف عنها أحد أو كتب مؤرخ متابع القضية الفلسطينية إلا هو!! يبدو أنهم كانوا يحققون بطولاتهم الموهومة،
وبشكل سرّي لا يعرف أحد بها إلا البنا، ويذكر ذلك قائلاً:(لقد ظهرت هذه الخصائص بأوضح صورها في المتطوعين من الإخوان في فلسطين، أولئك الذين أتوا بالأعاجيب وكانوا مثال الشجاعة والنزاهة والعفة)، والسؤال الحاضر بقوة كيف دخل المتطوعين إلى فلسطين من مصر إلا عبر حواجز الجيش البريطاني؟ وفي حقيقة إلى الآن لا نعرف السبب الحقيقي للسماح للمتطوعين الإخوان لمحاربة اليهود في فلسطين؟!
وعن البطولات التي ذكرها، ما كتبه المؤرخين عن هذه الفترة التاريخية وبشكل احترافي بعيداً عن الأهواء والكذب والتدليس، بطولات الجيش العربي على الرغم من قلة الإمكانيات، والذين كانوا في قيادة هذا الجيش من الإنجليز وتمردوا على هذه القيادة وأبلوا بلاءً حسناً، وكذلك الجيش العراقي، والمصري، وحتى الجيش اللبناني على الرغم من قلة عديده وإمكانياته، والبطولات التي سطّرها الحنيطي الضابط في الجيش العربي، وساهم في تشكيل المقاومة الشعبية في حيفا، واستشهد فيها وهو يقاوم الاحتلال البريطاني، هذه البطولات التي قرأناها، إلا إذا كان الحنيطي من الإخوان المسلمين ربما، ولا أحد يعرف هذا السرّ العظيم إلا البنا ولم يريد الكشف عنه لأسباب لا يعرفها غيره ربما.
فصل القول كتاب "قضيتنا" للبنّا درّة الرؤية السياسية للإخوان التلفيقية٠