لغة التكفير والهروب السياسي لـ "الاخوان المسلمين" اخرجت "داعش والنصرة" والبقية تأتي ..!!
الشريط الإخباري :
سليم النجار
هذه القراءة تعني محاولة الفهم للعقل الذي تم اغتياله باحترافية في كتاب "دعاة لا قضاة" لحسن الهضيبي، فالعقل هو في حالة فعل، والفعل يستلزم فاعلاً ومفعولاً به، وبالتالي فإن الفعل ينطوي على إحداث تغيير. ومعنى ذلك أنّ العقل، وهو في حالة فعل، يستلزم طرفًا آخر يُحدث فيه تغييراً، وهذا الطرف الآخر هو الكون، الذي اعتبره الهضيبي ملكية خاصة لأفكاره العرمرمية والتي لا يشق لها غبار.
ومع ذلك فإن العقل وإن كان في الكون إلا أنّه مجاور للكون، بمعنى أن العقل قادر على أن يعي الكون، ولكن الكون ليس قادراً على أن يعي ذاته. إذن قدرة العقل على الوعي بذاته هي في الوقت نفسه قدرته على الوعي بالكون. ووعي العقل بالكون يعني فيما يعني أنه قادر على معرفة الكون. ومن هنا قيل من بين ما قيل إن الإنسان كائن عارف، الذي يرفضه الهضيبي شكلاً ومضموناُ في كتابه "دعاة لا قضاة" ويحصر مفهوم الكون حسب معتقده الخاص به، ويسترشد بذلك (شهادة أن لا إله الا الله وأنّ محمداً رسول الله) ويواصل تعريفه للإنسان الذي يعيش في الكون، "ومعناها – مضمونها -دخول الانسان بها في دين الاسلام ص١٣". هكذا يفضي الاغتراب النفسي الروحي الذي تحيا جماعة الإخوان المسلمين والتي أحد تحليلاتها حسن الهضيبي، وممثلوها الجوهريون إلى تلك الرؤيا، رؤيا التي لا ترى أن هناك إنسان أصلاً ولا يستحق حمل هذه الصفة إلا إذا حمل صفة دعوات الهضيبي.
فهل يمكن فهم هذا الانفصال والاغتراب باعتباره سبباً أم نتيجة لواقع أمة قررت أن تسلم قيادها لمن يستأثر بالأمر دون الجميع، ويقمع من حاول مجرد الاشتراك أو الإسهام بدور ولو صغير في محاولة فهم الكون وعلاقة العقل به. على منحى مغاير نسبياً تأتي رؤى الهضيبي من حيث احتكاكها المباشر مع الآخر الذي جاء لأفكارهم لكي يكشف عن طريق المأساة التي حلت به سواءة كينونته الروحية والمعنوية وتخلّف سلوكياته ومفاهيمه وغباء أفكاره، "إنه لما كان الناس الآن لا يعرفون حقيقة معنى كلمات الإله، والرب والعبادة، والدين، فإنهم إذ يرددون شهادة (لا إله الا الله محمد رسول الله) إنما يرددون كلاماً لا يدركون حقيقة معناه ص٢٣". من هنا تبدو الأصولية كرد فعل يائس يلوذ بالجذور... دفاعاً عن الذات وخوفاً من الانسحاق أمام ثقافة التنوير التي تحكم العقل الفاعل الذي يقرأ ويحلل ضمن ظواهر العصر المعاش، وأن الماضي حياة نفذت يجب التعلم منها على أساس المعرفة، لا أساس الخوف من الحاضر والمستقبل وكأنه مجهول. وعلى ضوء هذا التحليل ينظر بعض الباحثين إلى الخبرة الدينية على أنها خبرة حب في المقام الأول، من حيث أن الواقع الإنساني الكامن وراء تصور حب الإنسان للإله في الدين هو قدرة الإنسان على أن يحب حباً منتجاً، حباً لا يشوبه الطمع ولا الخضوع ولا السيطرة، حباً من اكتمال شخصيته، تماماً كما أن حب الإله رمز الحب النابع من القوة لا من الضعف. وهذا ما يرفضه الهضيبي وجماعته -الإخوان المسلمين، فالإنسان حسب معتقدهم لابد أن يكون عبداً لأفكارهم وللإله الذي تم تصنيعه حسب أهوائهم. فلا حرية للعقل ولا حرية لمشاعر الإنسان، فهذه المفردات حسب تكونهم النفسي ودعوة للإلحاد. وللحقيقة فالقارئ العربي غير مغرم بالتحديد للمفاهيم والمصطلحات، وهو بشكل عام ينفر من التنظير، فهو يفضل اللغة الخطابية التي تتسلل إلى القلب على اللغة الموضوعية التي تخاطب العقل. والهضيبي في هذا السياق تساوق مع هذه الرغبة عبر سرد أفكار لا يمكن وصفها إلا بالبلهاء كقوله "والمنافق الذي يبطن الكفر ويظهر الايمان والإسلام إنما يخدع نفسه في الحقيقة ص٨٢"٠
إن شحن المفرد بالمعاني والرموز المستحدثة لدى الهضيبي، واللغة المستخدمة في صياغة أفكاره، بدلالاتها وبمضمونها التي نقول عنها بلغة النقد اليوم "الرسالة" التي يبلّغها الهضيبي "لقارئه" و(متلقّيه)، هذه الرسالة تضع تصورات قاطعة مانعة وتؤكد المؤكد الذي سلكه كل التيار الإسلامي المسيّس أنهم يملكون الحقيقة الكاملة كذكره "وما حرمه الله تعالي: حرام إلى يوم القيامة لا يملك أحد أن يحله. وفاعل ذلك بعد بلوغ الحق اليه الحجة عليه جاحد للنص مكذب لربه. فهو كافر مشرك بلا جدال ص٩٦". والرؤيا التي قدّمها الهضيبي بعيداً عن كل ما دجّنه المنطق الموروث... قوانين الحرية والابتكار، بما يُرسي أسس حوار متكافئ، ومتوازن بين الروحي والفكري، ويساعد على الإمساك بحقيقتين معًا: الحقيقة الفردية، والحقيقة العامة. هذا التوجه البدائي منها هو ما جعل الهضيبي يرى في كتابه "دعاة لا قضاة" منظوراً تجديدياً، وفي واقع الحال هو أدلجة أخلاقية لتشريع التكفير بلغة تستجدي القارئ والمُريد، واستغفال الوعي لقبول الحقائق التي توهم الهضيبي وأتى بها. وهذه من الإشكالات التي انتشرت في المشرق العربي، والتي أسس لها سياسياً الإخوان المسلمين، ليست بالجديدة. وتردّد في تاريخنا الثّقافي أثناء تراجم المالكية خاصّة، أصداء غير مترابطة عن قضيّة فكرية ظهرت في المشرق العربي، وانتشرت في سائر أنحاء العالم الإسلامي، وذهب الناس فيها فِرقاً وطوائف، وتولدت عنها مذاهب، وكانت في بعض أحوالها "فتنة" بالقدر الذي فتح مجالاً لتعميق علم الكلام والاستنجاد بالمنطق ليستقيم لكل فريق ما ذهب فيه. تلك ما عرف بمشكلة (خلق القرآن)، وهو موضوع قديم النشأة، إلا أنه أخذ أبعاده الواسعة بمواقف المعتزلة، وخاصّة جهم بن صفوان وبشر المريسي، اللّذان قالا أنّ كلام الله حادث مخلوق، بسبب إيمانهم بالتوحيد المطلق، واعتقادهم أنّ وصف الله بصفات قديمة قائمة به يفضي إلى القول بتعدّد القديم، ولذلك نفيا الصفات. وفي كلا الحالتين الأولى وما يمثله الهضيبي، والمعتزلة وإن كان هناك اختلافاً في الشكل لكنهما في المضمون يلتقيان على تغييب الوعي لصالح الهروب من الواقع المعيشي للإنسان، وتصوير حالة الهروب على إنه انجاز فكري!!!
ويبدو هذه مشكلة قديمة جديدة في عالمنا العربي، الإسلام السياسي يهرب من الواقع لخلق إشكالات وهمية كما فعل الهضيبي ومن سار على دربه، وكتّاب اليوم وللدقة البعض منهم، يرحلون خارج ثقافتنا العربية بحثاً عن بلاد جديدة وثقافة أوروبية وأرض تخدم توجهاتهم. وفي جميع الحالات، حالات الهروب، هي التي أنتجت تنظيمات إرهابية ك "داعش" و"النصرة" اللّتان استفادا من هذا الرحم الطبيعي لتلك الإشكالات التي صنعها "الإخوان المسلمين" و"المتغربين" عن عالمهم العربي روحاً وتاريخاً وتطوراً. إن كتاب "دعاة لا قضاة" للهضيبي الذي ينتقل دائماً بين الخطاب "الحرفي للنص القرآني" والخطاب المبهم يحوّلنا طوال الكتاب من البعد الرمزي والفلسفي، إلى البعد الواقعي البولسي٠