«شتي أيلول»

{clean_title}
الشريط الإخباري :  
احمد حسن الزعبي

 
ما زلت أنظر من نافذتي كل صباح، أفتّش ..طرفي الخیمة الزرقاء، عن برتقالة الضوء تصعد إلى درج النھار، فأجدھا خاویة، زرقاء مملة مثل شاشة تلفاز معطوب لا تفاصیل فیھا ولا زوار ّ حتى الوقت صار مثل موظف رسمي، یقوم بواجبھ الروتیني دون متعة، یقوم بما یقوم بھ لأنھ اعتاد على ذلك، والفصول أراھا تمر فوق جغرافیا أعمارنا فقط لأنھا الفصول، لم تعد تحمل إلینا الھدایا من كیس الذكریات، أو تفوح منھا رائحتھا الممیزة، لم تعد تخبئ لنا الغیم الشھي مثل «شعر البنات» خلف ظھرھا ّ لتفاجئنا برشة مطر، لم تعد تنثر لنا العصافیر التائھة وقت الغروب.. صارت تعود وتغادر في نفس الوقت من السنة، تغلق باب العمر خلفھا دون أن یلامس ..الجلد قشعریرة برد أو وحدة ** عندما كنّا أطفالا كان الخریف شاباً، یفرحنا، یمازحنا، ینفخ علینا ھواء بارداً وقت الغروب، یغني للنمل فتخرج الأسراب من ثقوب الطین لتسرق القمح ّ المكسر والشعیر الضعیف من تحت غربال أمي، كان یھز بیده شجرة التوت فیتساقط شیبھا الأصفر المخبأ بین الأخضر الكثیف، كانت ریحھ تعاكس اتجاه الدجاج فینفش ریشھا وتعیش دور الزعامة، كان یحضر لنا أطباقاً سماویة من طیور «أبو سعد» المھاجرة، تلف فوق حارتنا بشكل دائري نرفع رؤوسنا عالیاً عالیاً، تدغدغ السماء عیوننا فندمع لا فرحاً ولا حزناً ولكن لأن عیوننا لا تحتمل زرقتھا، نصغي السمع قلیلاً لنلتقط صرخات الطیور شاھقة الارتفاع ونضیفھا مفردة جدیدة الى قاموس المتعة، كنا نشعر بالنشوة عندما نرفع رؤوسنا لنراقب الطیور القادمة من الشمال والغرب، فھي الفرصة الوحیدة لنرفع رؤوسنا، حتى ..ھذه صادرھا منا فرق التوقیت وثقل ھموم الرأس ولم نعد نلتقطھا كنا صغاراً، وكان للعجین الخامر وقت الخریف رائحة مختلفة، وللخبز النائم في «منسفة القش» طعم مختلف، كنا صغاراً وكنا نطرب إذا ما سقط «لقن الغسیل» المركون منذ الصباح ونركض لنرى «أیلول»، أیلول الذي یوقع الأشیاء كلھا بدءاً من ورق العنب الى «لقن الغسیل» الى قلب الصبیة في حب جارھا.. الى الرمان الناضج تحت الشجرة.. أیلول القدیم كان یجبرنا أن نخرج من الخزانة معاطفنا وطواقینا لنستقبل أولى قطرات المطر فوق «صبة ..«العریشة» لنحتفي بــ«شتي أیلول ..أیلول صار قاسیاً الى درجة أنھ لم یعد یعنیھ طول انتظارنا، ولم یعد یبكیھ حالنا ..أیلول یعلن إضرابھ ھو أیضاَ.. تاركاً دفاتر ذكریاتنا یكسوھا الفراغ.

© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences