تونس تتكلم بالعربي الفصيح ..!
الشريط الإخباري :
تصر تونس على ان تُلهمنا من جديد، في المرة الاولى اطلقت شرارة «التغيير» بعد ان احرقت نيران القهر جسد «البوعزيزي» فامتد الحريق لكي يصنع «ربيعا» عربيا يتجدد كل يوم..
وفي المرة الثانية اطلقت «صافرة « الديموقراطية بعد ان ودع الناس هناك منطق الخوف من تزوير «اصواتهم» ومنطق الاستقالة من السياسة والمشاركة فتصالحوا مع بلدهم ومستقبلهم وقرروا ان يحتكموا الى الصناديق.
من يدقق في المشهد التونسي كما كشفته «الانتخابات» الاخيرة التي افرزت قيس سعيد رئيسا سيدرك على الفور ان «ثورة الحرية والكرامة» لم تسقط نظام الاستبداد فقط، وانما اسقطت معه افكارا - اوهاما ان شئت- سممت اذواق الناس واذهانهم ايضا.
اسقطت فكرة «عزوف الناس عن المشاركة» بذريعة انهم لا يؤمنون بالصناديق او انهم غير ناضجين لممارسة الديمقراطية، واسقطت فكرة «العنف» الاجتماعي الذي استخدم كفزاعة لتفصيل الديمقراطية المطلوبة على مقاسات جاهزة ومحددة، واسقطت فكرة الانتصار لطرف دون اخر على حساب الانتصار للوطن، وهي التهمة التي الصقت بالاحزاب لطردها من دائرة «التعددية» والوطنية لكي يظل الحزب الواحد منفردا بالسلطة والحكم ، كما اسقطت ايضا فكرة «المؤامرة» التي تقف خلف التغيير وفكرة «الفوضى» التي سيفضي اليها التغيير.
اذا كانت صورتنا في عصر» حروبنا الاهلية» التي رفعت البنادق مع المصاحف - وآسفاه - قد افزعتنا، فإن صورتنا الاخرى في مرآة اخواننا التوانسة تدهشنا وتسعدنا وتلهمنا ايضا، فبعد مخاضات طويلة تقلبت فيها تونس بين فصول الضجيج والهدوء وتغلبت فيها على منطق الخوف والانانية والاستعلاء، اصبح بمقدورنا -اليوم- ان نتعلم من تجربة اشقائنا، اولا - درس «التوافق» حين يكون حلاً لمشكلاتنا، وثانيا - درس»التنازل» حين يكون قوة لا ضعفا، وثالثا - درس «الانتصار « حين نجرد حسابات الربح والخسارة فنجد اننا نخسر لما ينتهي صراعنا على الحاضر أو الماضي إلى «تضييع» المستقبل، ونكسب حين تتقدم مصلحة «الجماعة الوطنية» على مصالح الجماعات والأحزاب والتيارات، ورابعا - درس الشراكة و»التعددية» اذ يلتقي العلماني مع الليبرالي مع الإسلامي على طاولة واحدة بعيداً عن صراع «الملفات» الإقليمية وإغراءات «الاستحواذ» على السلطة.
تقول لنا تونس، وهي تتحدث بالعربي الفصيح انه لا يمكن للاخرين - مهما كانت قوتهم ومهما اشتد كيدهم ومكرهم - ان يعبثوا او يتدخلوا او ينتصروا الا اذا انحنت الظهور لهم، فالدول والاوطان مثل الاجساد قد تهاجمها الامراض ولكنها لا تتغلغل في اوصالها ولا تشل حركتها اذا كانت محصنة وتتمتع بما يلزمها من عافية.
يمكن للإنسان العربي الذي «تعب» من الاحتجاجات ويأس من سطوة الانقلابات وأوشك أن يفقد أمله في «التغيير»، وللشعوب التي لا تزال تخرج لاسترداد حرياتها وحقوقها، كما يمكن لكل المتشوقين إلى «الحرية» والعدالة أن يحدّقوا في صورة «تونس» الجديدة وأن يستلهموا من تجربتها مدداً للأمل والهمّة والإصرار.
نحتاج الى استحضار صورة تونس»الخضراء» وانتخاباتها الديمقراطية لعلها تعوضنا عن صور «العواصم» الحمراء التي لوّنها الدم، وتطرد من عقول اجيالنا وقلوبهم كوابيس الخوف والاحباط ، وتبدد هذا الغبار الكثيف الذي حوّلنا الى احصائيات من القتلى واللاجئين في اوطان تحولت الى سجون وتوابيت ومقابر.