الديمقراطية الاجتماعية الأردنية: قراءة وطنية في العدالة والتنمية
إعداد الكاتب والباحث
: المهندس نبيل إبراهيم حداد
مستشار الهندسة والصناعة وإدارة المشاريع
إخلاء المسؤولية
هذا المقال يعبّر عن الآراء الشخصية والتفسيرات والانطباعات المهنية للمهندس نبيل إبراهيم حداد، وهو مخصّص لأغراض معرفية وتعليمية فقط، ولا يُعدّ بأي حال نصيحة مهنية أو قانونية أو تعاقدية. وقد بذل المؤلف أقصى الجهود لضمان دقة المعلومات، دون تحمّل أي مسؤولية عن الأخطاء أو عن استخدام أو الاعتماد على ما ورد فيه. ويُشجَّع القرّاء والمؤسسات على ممارسة حكمهم الخاص وتكييف الأفكار المطروحة بما يتناسب مع ظروفهم الخاصة.
مقدمة
اعتدت في كتاباتي السابقة التركيز على القضايا الهندسية والصناعية وإدارة المشاريع، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن الإصلاح الاقتصادي يبدأ من تحسين الكفاءة التقنية والإدارية. غير أن التحديات التي يواجها الأردن اليوم تتجاوز الأدوات الفنية، وتمسّ جوهر العلاقة بين الحكم، والعدالة الاجتماعية، والنمو الاقتصادي المستدام.
في لحظة إقليمية ودولية مضطربة، ومع ضغوط اقتصادية متراكمة، يبرز سؤال وطني مشروع: هل يمكن للأردن أن يطوّر نموذجًا اقتصاديًا اجتماعيًا يعزّز العدالة ويحفّز النمو، دون المساس باستقراره السياسي ونظامه الدستوري؟
من هذا السؤال تنطلق فكرة الديمقراطية الاجتماعية الأردنية، بوصفها إطارًا وطنيًا إصلاحيًا، لا أيديولوجيًا، يسعى إلى تحقيق توازن واقعي بين دور الدولة، وحيوية السوق، ومسؤولية المواطن، في ظل النظام الملكي الدستوري.
السياق الإصلاحي: الأوراق النقاشية الملكية
شكّلت الأوراق النقاشية الملكية منذ عام 2012 مرجعية فكرية أساسية لمسار الإصلاح السياسي في الأردن. فهي لم تكن نصوصًا نظرية معزولة، بل دعوة صريحة لحوار وطني حول شكل الدولة الحديثة ودور المواطن فيها.
أكدت هذه الأوراق على مفاهيم جوهرية مثل:
• المشاركة السياسية الواعية،
• المواطنة القائمة على الحقوق والواجبات،
• سيادة القانون والمؤسسات،
• والإصلاح التدريجي القائم على الاستقرار لا الصدمات.
ورغم أن الأوراق لم تدخل في تفاصيل النماذج الاقتصادية، إلا أنها أرست الإطار القيمي والمؤسسي الذي يسمح بتطوير نموذج اقتصادي اجتماعي متوازن، يحوّل المبادئ السياسية إلى سياسات تنموية عادلة وقابلة للاستدامة.
ما المقصود بالديمقراطية الاجتماعية الأردنية؟
الديمقراطية الاجتماعية الأردنية ليست اشتراكية عقائدية، ولا رأسمالية متوحشة، بل صيغة وطنية هجينة تقوم على اقتصاد مختلط، ودولة قوية بمؤسساتها، ومجتمع فاعل بمواطنيه.
هي نموذج يعترف بدور السوق والقطاع الخاص في الابتكار والنمو، لكنه يرفض ترك المجتمع رهينة لاختلالات السوق أو تعميق الفجوات الاجتماعية والمناطقية.
المرتكزات الأساسية للنموذج
1. الملكية الدستورية كضامن للاستقرار
تشكّل المؤسسة الملكية عنصر التوازن والاستمرارية والوحدة الوطنية، وتوفّر الغطاء السياسي للإصلاح التدريجي.
2. سيادة القانون والمؤسسات
لا عدالة اجتماعية دون مؤسسات قوية، ولا اقتصاد صحي دون شفافية ومساءلة وفصل واضح بين السلطات.
3. اقتصاد مختلط منظّم
تحتفظ الدولة بدور استراتيجي في القطاعات الحيوية كالمياه والطاقة والصحة والإسكان، مع فتح المجال أمام القطاع الخاص للمنافسة والابتكار ضمن أطر تنظيمية عادلة.
4. عدالة اجتماعية قائمة على تكافؤ الفرص
ضمان التعليم الجيد، والرعاية الصحية، والسكن اللائق، ليس ترفًا أيديولوجيًا، بل شرطًا للاستقرار والنمو طويل الأمد.
5. مواطنة فاعلة ومسؤولة
المواطن ليس متلقيًا للخدمات فقط، بل شريك في التنمية، كما أكدت الورقة النقاشية الرابعة.
6. إصلاح تدريجي واقعي
التغيير المتوازن والمتدرج هو الخيار الأردني الأنجع، بعيدًا عن القفز في المجهول أو الجمود.
سياسات عملية منسجمة مع النموذج
يمكن ترجمة هذا الإطار إلى سياسات عملية ضمن ثلاثة محاور رئيسية:
أولًا: المحور الاقتصادي
• نظام ضريبي تصاعدي عادل يوسّع القاعدة الضريبية دون خنق الاستثمار.
• دعم الصناعات الوطنية الواعدة، مثل الطاقة المتجددة، والتصنيع المتقدم، والمباني المسبقة الصنع.
• شراكات مدروسة بين القطاعين العام والخاص في مشاريع البنية التحتية والإسكان.
ثانيًا: المحور الاجتماعي
• تعليم ورعاية صحية شاملان مع تركيز خاص على المحافظات الأقل حظًا.
• برامج إسكان وطني موجّهة للشباب وذوي الدخل المحدود.
• تشريعات عمل تضمن الأجور العادلة والحماية الاجتماعية والكرامة الوظيفية.
ثالثًا: المحور الحوكمي والمؤسسي
• تمكين البلديات والمجالس المحلية لتعزيز اللامركزية والخدمات.
• تعزيز دور مؤسسات الرقابة والمجتمع المدني.
• رفع كفاءة الجهاز الحكومي وبناء القدرات الإدارية.
التحديات وسبل التعامل معها
لا يخلو هذا المسار من تحديات، أبرزها:
• الضغوط المالية على الموازنة،
• مخاوف القطاع الخاص،
• ضعف بعض القدرات المؤسسية،
• والظروف الإقليمية غير المستقرة.
غير أن المعالجة تكمن في:
• التنفيذ المرحلي،
• تحسين كفاءة الإنفاق،
• بناء توافق وطني واسع،
• والحفاظ على وضوح الأدوار بين الدولة والسوق والمؤسسات.
ما الذي لا تعنيه الديمقراطية الاجتماعية الأردنية؟
لا تعني مصادرة القطاع الخاص، ولا تسييس الاقتصاد، ولا تحميل الدولة أعباء غير قابلة للاستدامة، كما لا تمثل قطيعة مع السوق الحرة، بل تسعى إلى تنظيمها وضبط آثارها الاجتماعية بما يخدم الصالح العام.
لماذا يناسب هذا النموذج الأردن؟
لأن المجتمع الأردني متجذّر في قيم التكافل والعدالة، ولأن النظام الملكي يوفر مظلة استقرار تسمح بالإصلاح المتدرج، ولأن محدودية الموارد تفرض إدارة أكثر عدالة وكفاءة، ولأن الأردن قادر على تقديم نموذج إقليمي متوازن يجمع بين الحداثة والهوية.
خاتمة
الديمقراطية الاجتماعية الأردنية ليست مشروعًا أيديولوجيًا، بل خيارًا وطنيًا عمليًا في لحظة مفصلية. إنها محاولة للإجابة عن سؤال جوهري: كيف نحقق العدالة دون أن نفقد الاستقرار، وكيف نُصلح دون أن نُغامر بوحدة الدولة؟
النقاش حول هذا النموذج لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة وطنية، إذا أردنا أردنًا أقوى من الداخل، أكثر عدالة لمواطنيه، وأكثر قدرة على مواجهة المستقبل.








