حينما يعود الشهداء .. المجد يكون
الشريط الإخباري :
بقلم :ميساء أبو زيدان.
لعشرون دقيقة أحنى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون رأسه غير متمالك لدموعه إلى أن مرّ موكب نعوش الشهداء في مشهدٍ مهيب عاشته الجزائر فور استعادتها رفات أربع وعشرين من قادة المقاومة الشعبية الجزائرية الذين ثاروا رفضاً للاستعمار الفرنسي. احتُجِزت جماجم هؤلاء الشهداء لما يزيد عن القرن والنصف بمتحف التاريخ الطبيعي بباريس في فرنسا واستُرجِعت نتيجة المفاوضات التي جرت بين البلد الذي عانى ويلات الاستعمار والبلد الذي انتهجَ قطع رؤوس الثوار الذين انتفضوا رفضاً للإحتلال بل ويحتجزها تأريخاً وفخراً بسياسة قطع الرؤوس في متحفٍ عنوانه (الإنسان) كان قد شُيُّد من قِبَل مَنْ استباحَ الإنسان الجزائر خلال ثورته ضد المُستعمر.
لكأنه قَدّر للجزائر بأن تكون المرجع الذي منه تستلهم الشعوب الحرّة دروساً بكيف تُصاغ سطور المجد والكرامة وكيف يكون الوفاء لِمَن قدّموا أرواحهم على مذبح الحرية. لم يكن ذاك المشهد برسم الجزائرين فقط ولم يهز وجدانهم وحدهم بل كان لحظةً فارقة أجبرت الملايين على التمترس أمام الشاشات وتكرار استعراض صور موكب الشهداء تعطشاً منهم للحظة عزٍّ يتذوقونها. أن يثبُت الرئيس الجزائري برأسه محنياً طوال تلك المدة الزمنية كان درساً تلقيناه عنوانه الوفاء للذين استرخصوا دماءهم وأرواحهم كي تستحيل أوطانهم حرة عزيزة، خلال تلك اللحظات اهتزت مشاعر الإنسانية توقاً لاختبار معنى الانتصار لإرادة الأحرار ووفاء امتدادهم وتعظيم شعبهم بعد أن وضع قضاياه المُلّحة جانباً وارتهن لتلك اللحظات تبجيلاً واعترافاً بفضل الأبرار عليهم.
وعبر المشهد المهيب ذاته ازدان العلم الجزائري؛ هذا العلم الذي ارتعدت قواي خائرةً وأنا أبالغ في لمسه وأدقق في كيفية نسج خيوطه علني أكتشف هل هي صنيعة الإنسان فعلاً أم أنها نُسِجت في عوالم مجدٍ سرية لم نستدل طريقها بعد، كيف لا وهو علم أحد الثوار الجزائرين الذي قُدمِ هديةً على قدسيته وغلو ثمنه قدراً وقيمةً من الجزائري الحرّ الكريم للفلسطيني الثائر في إشارة على ما يبدو لتقاسم المصير. قصة الارتباط الوثيق الذي اجتمع فيه الشقيقين تتجاوز مجموع المشاهد والمواقف التي نَسجَت تاريخ العلاقة بين الشعبين المتحدين عزةً وأصالة، قصة تجسدت في زوايا وأوقات ومواقف ومستويات لا حصر لها ولن تُحصر ما داما على هذه البسيطة.
لم تنحصر العلاقة بين فلسطين والجزائر في حدود احتضان الثانية للأولى بأصعب المراحل وأشدها حُلكةً وظلما بحق الشعب الذي لا زال يرزح إلى الآن تحت سطوة الظلم التاريخي؛ فغدى المقر الأول لمُفجرة الثورة الفلسطيني المعاصرة حقيقةً تجلت من على أرض الأحرار، ولم تُترجم بحدود الموقف التاريخي الذي صاغه الزعيم الحرّ هواري بو مدين حين صمَّ آذانَ قوى الاستعمار وأذنابه بعبارته التي دوّت كرامةً "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة" هذا الموقف الذي ثَبُتَ منهجاً اقتاد به خلفه، ولم تتجسد ارتباطاً وثقته الدماء الجزائرية التي نزفت لأجل فلسطين والسلام أو دعماً متدفقاً لم ينضب يوماً. لم تتحدد سقوف العلاقة بين الشقيقتين بمرحلةٍ معينة أزفت، أو مواقفٍ لحظية اجتُزأت من عمقها، أو بأسماءٍ رحلت بما احتوته أجسادها من أصالة، بل جاءت قدراً صانته الأجيال عهداً متجددا.
من وسط المآسي التي يجابهها الشعب الفلسطيني رفضاً لسياسات المُحتل ولظلم الآخرين توحدت أنظار أبنائه مشدوهةً باتجاه الجزائر المدرسة علّه رغم جراحه يدرك لذة تلك اللحظة التاريخية ويجدد العزيمة بروحيةٍ يستمدها من الشعب الذي أعاد صياغة الحتمية التاريخية بالنصر والانتصار للشهداء وفاءًا، نحو تلك اللحظة التي خطّ خلالها الجزائريون الفصل الأهم وسط المشهد المهيب وبأن الأوطان لا تتجاوز مَن اتقدوا ثورةً ذوداً عن كرامتها في تأكيدٍ منهم بأنه مهما طال اغتصاب الأرض والتغوال إجراماً بحق الشعوب فكلّ احتلالٍ واستعمارٍ مصيره الاندحار والزوال وبأن النصر حتميةٌ يجب أن تغدو يقيناً مهما تعاظم حجم التضحيات، وبأنه لا بدّ لشهداء فلسطين أن يعودوا ليستقروا بسلام بين ثنايا أرضهم التي ستحتضنهم مجددا.
لقد قيل الكثير جزائرياً إبان وفور تلك الوقفة التاريخية التي سطروها إرادةً عظيمة رغم هواجسهم وقلقهم أملاً بالوطن الذي ينشدونه وبالمستوى الذي يليق بالأبطال العائدين والشهداء الأبرار، لكننا شهدنا رغم هذا الكثير موقفاً ارتقى به الجزائريون عن كل ما هو دون الحقيقة والقيم الوطنية التي اكتنزوها ولا زالوا، في تأكيدٍ مُتجدد منهم على المكوّن الجزائري الأخّاذ الذي امتلك دوماً القدرة على التنبه لكل ما من شأنه المساس بكرامة البلد الحر والشعب العريق أصالةً والمُلهِم مجداً؛ الحال الذي نثق على الدوام أن يبقى الصخرة المنيعة في وجه مخططات قوى الظلام والاستعمار. من فلسطين نرجو أشقاءنا في الجزائر الحبيبة أن يستمروا بصلابة متحدين متصدين لكل المحاولات التي تستهدف استقرار وكرامة بلد المليون شهيد وشهيد، لأجل فلسطين نناديكم .. ونبوس الأرض التي داست عليها نِعال الشهداء العائدين ونقول: فلتبقى الجزائر حرة قوية منيعة.