قيم الجمهورية الفرنسية والأعيب ماكرون السياسية
الشريط الإخباري :
مهدي مبارك عبد الله
منذ أن وصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه وشغله الشاغل التطاول على الدين الإسلامي والمسلمين بعبارات مستفزة من قبيل تكراره عبارة "الإرهاب الإسلامي" وتلويحه " بفزاعة الإسلام السياسي " وإظهار كراهيته المفرطة للإسلام وتصريحاته البغيضة بان" الإسلام في أزمة " ناهيك عن تخويفه الدائم للفرنسيين بان الاستمرار في الانتهاكات المتعددة والانحراف في الهوية العلمانية للدولة سيقود حتما إلى إحداث هزة عنيفة في قيم الجمهورية الفرنسية المبنية على الثلاثية الشهيرة ( حرية وإخاء وعدالة ) لهذا لابد من اتخاذ تدابير تشريعية قوية ورادعة وبأسرع وقت علما بان هناك شبه اتفاق على الساحة الفرنسية على ضرورة مراجعة السياسات والقوانين والمقاربات الأمنية لظاهرة ما يسمى بالعنف والتطرف والإرهاب
وكل ذلك دعا إليه ما كرون من اجل تحقيق مكاسب سياسية تهدف الى خروجه من مأزقه الداخلي في ظل تدني شعبيته ومواجهته للعديد من المشاكل الاقتصادية حيث تشهد الأحياء الفقيرة في الضواحي الباريسية والتي يمثل المهاجرون غالبية سكانها على فشل السياسة الفرنسية على مدار عقود في إمكانية دمجهم في المجتمع الفرنسي وعلى العكس تركوا يعيشون في بيئات هامشية بغض النظر عن انتماءاتهم العقائدية سواء كانت الإسلام أو غيره
يعتبر كثيرون من المعارضون لسياسة ماكرون أنه يعاني من تدهور حاد في شعبيته لم يعرفها أي رئيس فرنسي آخر خاصة بعد أيلول من العام 2017 عندما اصدر قانون العمل الظالم ليمثل المسمار الأول في نعش شعبيته ثم ف مزيد من ضرائب القيمة المضافة على السيارات التي تستخدم الديزل والتي أقرت في تشرين الثاني من العام 2018 وهو ما زاد من رقعة الاحتجاجات الشعبية في البلاد ليفجر بعدها ما عرف باسم " احتجاجات ذوي السترات الصفراء "
في ظل كل تلك الظروف الصعبة والمعقدة لم يكن أمام ماكرون سوى مغازلة تيارات سياسة فرنسية محددة يتركز جلها في جانب اليمين المتطرف في محاولة منه لرفع شعبيته المتدهورة وفق سياسة " الهروب للأمام " ومن المعلوم تاريخيا أن بعض الرؤساء المتعاقبون على حكم فرنسا حاولوا مرات عديدة وضع طابع فرنسي على الإسلام بما يضمن تناغمه داخل المجتمع ويتماشى مع القيم العلمانية في البلاد وعلى خطى هؤلاء يحاول ماكرون اليوم " فرنسة الإسلام " وقد يكون التشريع القادم الذي أمهل فيه قادة المسلمين في فرنسا أسبوعين اعتبارا من 19/ 11/ 2020 لتقديم ( ميثاق للقيم الجمهورية ) يتضمن التأكيد على الاعتراف بقيم الجمهورية ويحدد أن الإسلام في فرنسا هو دين وليس حركة سياسية وينص على إنهاء التدخل أو الانتماء لأي دول أجنبية هو الخطوة الأولى في هذا الاتجاه حيث يأمل من وراء تشكيل المجلس الوطني للأئمة أن ينهي في غضون أربع سنوات وجود 300 إمام أجنبي في فرنسا " مبتعثين " من تركيا والمغرب والجزائر و
وبموجب الميثاق الجديد سيتعين على كل إمام الإلمام بمستوى مختلف من اللغة الفرنسية وحيازة شهادات دراسية يمكن أن تصل إلى المستوى الجامعي بالإضافة إلى مطالبة ماكرون بتنقية الدين الإسلامي من النفوذ الأجنبي والتطرف والنزعات السياسية واتخاذ كافة التدابير القانونية التي تسمح بالتدخل لحفظ القانون والنظام العام وهنا نؤكد انه لا جدال في أن فرنسا تعدّ واحدة من أسوأ الدول الغربية في التعامل مع مواطنيها المسلمين نتيجة تبني نموذج متطرف في العلمانية واستخدامه كمبرر للتمييز ضد المسلمين بدعوى الاندماج ومحاربة التطرف
لقد استعل ماكرون بانتهازية سياسية قذرة مقتل المدرس صامويل باتي مدرس التاريخ الذي قُطع رأسه على يد شاب شيشاني بعد عرضه رسوماً كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد على تلامذته وكذلك بعد مقتل ثلاثة أشخاص داخل كاتدرائية في نيس حيث زاد من ضغوطه على قادة الديانة الإسلامية في فرنسا وحملهم وزر الجريمتين وفوق ذلك كرر أقواله السوقية والمهينة بان ( القانون الفرنسي يجيز توجيه النقد والإساءة وإعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية ضد الإسلام ) وأن ( صامويل باتي قتِل لأنّ الإسلاميين يريدون الاستحواذ على مستقبلنا ) وانه على ( فرنسا التصدي للانعزالية الإسلامية " الساعية إلى إقامة نظام موازٍ وإنكار قيم الجمهورية ) ولابد من فرض رقابة أكثر صرامة على الجمعيات الإسلامية والمساجد وبذلك يقوض أسس قانون عام 1905 الذي يحدد أطر ممارسة العبادة لعموم الفرنسيين " من خلاله بهدف أيضا "تحرير الإسلام في فرنسا من التأثيرات الأجنبية مما أثار ردود فعل غاضبة من داخل فرنسا وأنحاء مختلفة من العالم الإسلامي باعتباره موقف سياسي يفتقد الحكمة والعقلانية ويشجع التيارات المتطرفة بكافة أطيافها نحو الصراع العقائدي والعنف الدموي المتبادل
ولا يفوتنا التذكير في هذا الصدد بخطاب ما كرون العنصري الذي ألقاه في 2 /10 / 2020 حيث استمر نحو 70 دقيقة رفض فيه أن يكون ثمة مشكلة في العلمانية الفرنسية وقال أن المشكلة هي في الإسلام حسب تشخيصه المتحيز وتحدث عن ما يسميه " الانفصالية الإسلامية " وأنها مشروع سياسي ديني يتجسد في بعده عن قيم الجمهورية ثم حمل فيه بشدة على الإسلام والمسلمين وأوقد نار الضغائن والأحقاد القديمة وطالب بالتعجيل بإصدار تشريع " حماية " الجمهورية والقيم الفرنسية تبعا لحساباته السياسية المعروفة على أن تتم مناقشته في البرلمان بداية عام 2021 قبل الانتخابات الرئاسية الفرنسية القادمة عام 2022 بالرغم كل الانقسامات العميقة في فرنسا حول القانون فضلا عن خشية قادة الجالية المسلمة الفرنسية التي يبلغ عددها نحو ستة ملايين نسمة وهي ( الأكبر في أوروبا الغربية ) من أن تطبيق هذا القانون سوف يصمها ويربطها بشكل غير عادل بحالة الإرهاب والتطرف والعنف القائمة والمتكررة
والملاحظ بشكل كبير أن ماكرون تجاوز في توظيف عدائه للإسلام حدود مشاكله وأزماته الداخلية وتوسع نحو إشعال معركة إقليمية مع تركيا التي اصطدمت مع باريس في أكثر من ملف ساخن في ( ليبيا واليونان ونيجريا ) وشرعت منذ سنوات في تثبيت نفوذها داخل بعض المستعمرات الفرنسية في إفريقيا
ولا زال ماكرون يدعي زورا وبهتان أنه يفرق بين الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف ولكنه في الواقع يضعهما الاثنين في نفس التصنيف والخطورة وهو يصنع العداء والخوف في المجتمع من اجل الاستثمار الانتخابي بعد تراجع أسهمه مقابل اليمين واليمين المتطرف اللذين تتصاعد حظوظهما وشعبيتهما بشكل كبير في أوساط الرأي العام الفرنسي هذه الأيام
يمكن قراءة تصريحات ماكرون ضمن سياق سياسي تحليلي يتعلق بالمواجهة الانتخابية المرتقبة مع زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي " مارين لوبان " التي ستكون المنافسة الرئيسية له بل إن لوبان حسب نتائج استطلاعات مختلفة للرأي ستكون الفائزة بالمركز الأول في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية فهل يجب أن نقرأ تصريحاته ضمن هذا السياق التنافسي فحسب أم أن علينا أن نعترف أنه لا يختلف اختلافا كبيرا عن لوبان في عنصريته وتطرفه في تحرير البلاد من "الإسلام القنصلي" الذي تتولاه قنصليات المغرب والجزائر وتركيا و دعواته المتكررة لمراقبة التمويل الأجنبي للجمعيات والمراكز الإسلامية
يتلخص مشروع ماكرون العنصري في الانتقال من " علمنة الدولة " إلى "علمنة المجتمع" التي يرفع لواءها اليمين المتطرف وقد سبق " لجون بوبيرو " أن سماه " العلمانية المزيفة " لأنها تهدف إلى الدخول في الضمائر فإذا كانت علمنة الدولة هي محل اتفاق داخل المجتمع الفرنسي وتعني حياد الدولة تجاه الاعتقاد أو عدم الاعتقاد فإن علمنة المجتمع تقوم على تدخل الدولة في خيارات الأفراد وحرياتهم باسم الدفاع عن قيم الجمهورية وهو ما يرفضه الجميع لأنهم لن يكونوا أحرار وسوف تتحول تدريجيا هذه العلمنة إلى أداة استبداد ضد الأفراد والجماعات لأنها تخالف الشرط الأساسي للعدالة بين المواطنين وسيكون المسلمون أول ضحاياها وأكثرهم تضررا
إذا الأزمة الحقيقة هي داخل فرنسا لا خارجها وليست في الإسلام كديانة عمرها 14 قرنا والإسلام ليس في أزمة إنما ماكرون نفسه هو المأزوم وفرنسا اليوم خائفة على هويتها المتخيلة وعلى ثقافتها المبعثرة والتي كانت بحسب تصور ماكرون الضيق ( واحدة ومنسجمة ) والإسلام يهددها اليوم وقد تزايد انتشار هذا الفهم المغلوط مع صعود اليمين المتطرف داخل فرنسا خصوصا وأوروبا عموما وبعد خطوات اعتزال الكثير من الفرنسيين الكنيسة وفي المقابل ارتفاع عدد الفرنسيين المسلمين والإقبال على المساجد فكلما زاد اضطهاد الأقليات المسلمة والتعرض لرموزها ومقدساتها الإسلامية زاد الإقبال على الإسلام لأنه ببساطة دين فطرة وعدالة وقيم إنسانية وهو الدين الذي جمع الأمم والشعوب وساسها بمبادئ ( الحرية والإخاء والعدالة ) قبل ولادة الجمهورية الفرنسية بمئات السنين هزلت والله إلف مليار مرة فكلما أراد رئيس بلد غربي أن يستقطب أصوات اليمين المتطرف في بلده يتجرأ على شعوب العرب والمسلمين بأتفه النعوت ويجد له من بيننا عربان مؤيدين ومناصرين وها هو اليوم ماكرون التافه يجعلنا مطية لانتزاع أصوات انتخابية من أنصار اليمين المتطرف لقد انحدرت مكانة النخبة السياسية الفرنسية إلى الحضيض
وفي الخلاصة نتساءل هل يحق لفرنسا التدخل في كيفية ممارسة المسلمين لعبادتهم الشرعية ووضع تفسيرات خاصة لنصوصهم الدينية ثم ألن يدفع " الإسلام المصنوع في فرنسا " على مقاسات مبادئ وقيم الجمهورية الحرة فئات عريضة من المسلمين نحو براثن الجماعات المتطرفة داخل فرنسا وأوروبا والمنطقة عامة وأخيرا أليس في كل ذلك تعارض صارخ بين سعي فرنسا الإمبريالية الثقافية وهي تصنع " محاكم تفتيش " جديدة بهذه الخطوة وفي نفس الوقت لا تدخر جهدا ووسعا في نشر وإشاعة " الفرنكوفونية " على طول وعرض العالم العربي " فمن سيقتنع غير الخرفان البشرية " التي لاتهمها إلا كومة عشب تحت إقدامها وسوط الراعي يلهب أجسادها ذلة وانقياد وخضوع
mahdimubarak@gmail.com