الجنرال د. فايز الدوري يكتب .. فلسطين تقاوم
الشريط الإخباري :
منذ تأسيس حركة حماس وهي تمثل قطب الرحى في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي ، ومثل الشهيد المهندس يحيى عياش رأس الحربة في مقارعة الإحتلال بما تيسر من إمكانات متواضعة، ولكنه بجهوده الحثيثة وضع المقاومة الفلسطينية على خط المقاومة المسلحة فاتحاً آفاقا واسعة لتطوير القدرات والإمكانات التي أضحت تقض مضاجع الإسرائيليين على مختلف الصعد السياسية والعسكرية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية.
في عام 2001 أطلقت حماس أول صاروخ قسام وكان صاروخا بدائيا لا يتجاوز مداه أربعة كيلومترات وبرأس متفجر يزن نصف كيلوغرام من المتفجرات .. وصف البعض تلك الصواريخ بأنها صواريخ عبثية فيما وصفها بعض الإعلاميين بأنها لم تقتل ذبابة فيما جلبت الدمار لقطاع غزة. ولكنهم ولأسبابهم الخاصة لم ينظروا الى الجزء الممتلىء من الكأس، وان هذه الصواريخ ستحقق توازن الرعب وتجبر أكثر من خمسة ملايين إسرائيلي على ان يكونوا حبيسي الملاجئ، وان تخلو المستوطنات القريبة من قطاع غزة من سكانها، وان تكبد الإسرائيليين خسائر اقتصادية فاقت ثلاثة مليارات دولار وفقا لأقل التقديرات.
كانت غزة ولا تزال تمثل الشوكة في خاصرة الإحتلال، ولتأكيد ذلك تمنى إسحاق رابين ان يصحو من نومه وقد ابتلع البحر غزة، فيما لم يجد شارون سوى الإنسحاب من غزة وتدمير المستوطنات التي أقامتها اسرائيل على أرضها، ولم يكن الانسحاب الاسرائيلي الا دلالة على عدم قدرة اسرائيل على السيطرة على غزة والقضاء على المقاومة فيها.
شنت اسرائيل في نهاية عام 2008 عملية «الرصاص المصبوب» التي قابلتها فصائل المقاومة بمعركة «الفرقان» والتي أمتدت لمدة 23 يوما. وصلت دائرة تأثير صواريخ المقاومة لأربعين كيلومترا داخل الأرض المحتلة وهو مدى صواريخ غراد2 ، ثم جاءت بعد ذلك حرب عام 2012 التي وصلت صواريخ المقاومة الى 75 كيلومترا لتطال تل أبيب لأول مرة.
في الثامن من الشهر الماضي بدأت اسرائيل حربها الثالثة على قطاع غزة بإسم «الجرف الصامد» لتعلن حماس ومعها بقية الفصائل المقاتلة بدء معركة «العصف المأكول» فما هي نقاط الاختلاف عن الحروب السابقة وكيف أدارت فصائل المقاومة عملياتها القتالية؟
إرتكبت القيادة العسكرية الإسرائيلية خطأ استراتيجيا رئيساً تمثل في إعادة استنساخ خططها العسكرية السابقة دون ان تأخذ في حساباتها قدرات المقاومة على التطوير والابتكار في المجالين التقني والمهاري، فبدأت عملياتها العسكرية بحملة جوية مكثفة وقصف مدفعي وصاروخي على أهداف منتقاة من بنك الأهداف الاسرائيلي، تراوحت بين عسكرية شملت منصات إطلاق الصواريخ والأنفاق ومؤسسات الحكومة السابقة.
ولكن النسبة الأكبر من الأهداف كانت مدنية شملت منازل ومبان مدنية ودور عبادة ومدارس وغيرها، وهذا الانتقاء الاسرائيلي لم يكن عبثيا أو عن جهل بقدر ما هو انتقاء دقيق لإيقاع اكبر عدد ممكن من الخسائر في المدنيين لمعاقبة البيئة الاجتماعية الحاضنة للمقاومة، ومما يؤكد ذلك ان معظم القتلى والجرحى من المدنيين، وان الدمار الذي حاق بغزة طال مقومات الحياة المدنية أكثر مما أصاب بنية المقاومة المسلحة.
تتلخص أبعاد الحرب في البعد البري والبحري والجوي، فيما تضيف الولايات المتحدة بعدا رابعا وهو حرب الفضاء، وبما أن إسرائيل تتفوق في الأبعاد الثلاثة بما تملكه من قدرات وإمكانات عسكرية جعلت من قدرة حماس على إحداث اختراق مؤثر محدودة. ورغم ذلك التفوق نفذت قوات المقاومة عملية برمائية في الهجوم على قاعدة زكيم، كما أطلقت طائرات بدون طيار ( أبابيل )، وكان تأثيرها المعنوي أكثر من التأثير المادي، لذا كان لزاما على المقاومة ان تجد بعدا جديدا يمكنها من تحقيق إنجازات ميدانية وعملياتية، وتمثل ذلك البعد في تحضير شبكة أنفاق هجومية تمكنت من خلالها من تنفيذ العديد من العمليات النوعية الناجحة خلف خطوط العدو، كما لجأت الى استخدام أسلوب عسكري معروف وهو استدراج قوات العدو الى مناطق تقتيل مختارة مسبقا سواء في الأراضي الزراعية المفتوحة أو في المناطق المبنية.
هذا النوع من العمليات العسكرية المعقدة خاصة في حالة مواجهة قوات مدربة تدريبا عاليا ومزودة بأحدث أنواع الأسلحة وتمتلك التفوق التقني يتطلب العديد من الإجراءات لإعداد الفرد المقاتل.
ويمكن تلخيص تلك الإجراءات بالأعداد البدني ليتحمل المقاتل ظروف المعركة الصعبة والطويلة وليتمكن من البقاء على الحياة والقدرة على تنفيذ المهام المطلوبة. كما يجب إعداد المقاتل عقائديا ونفسيا ومعنويا لتحمل تلك الظروف الصعبة ويقدم على التضحية بروحه طلبا للشهادة ودفاعا عن الأرض والعرض التي طالب أستاذ جامعي اسرائيلي في جامعة بار أيلان بإنتهاكها.
ثم يتم الانتقال الى المستوى الثالث وهو الإعداد المهاري الاحترافي ليرقى لمستوى الفرصة الواحدة ، هذا المستوى يتطلب من المقاتل ان يدمر هدفه أو يقتل أو يصيب عدوه من الصاروخ أو الطلقة الأولى وإذا أخطأه لن يمنح فرصة ثانية لانه سيكون هو القتيل أو المصاب، وبعد إتقان المستويات الثلاثة السابقة يتم الانتقال الى المستوى الرابع وهو القتال في مجموعات صغيرة من المسافة الصفرية، ولقد أتقن مقاتلو القسام هذه المستويات الأربعة والدليل على ذلك نتائج تلك المعارك من معركة ناحال عوز والشجاعية وخزاعة وغيرها فكانوا أصحاب اليد العليا في تلك المعارك والإحصائيات الراصدة لخسائر الجيش الاسرائيلي تثبت ذلك.
أما في تحقيق توازن الرعب، والردع بالردع فطالت صواريخ القسام والجهاد الاسلامي وبقية الفصائل المسلحة معظم جغرافية فلسطين المحتلة من تل الربيع الى يافا وحيفا واللد والقدس ومعاليه أدوميم، ووضعت خمسة ملايين شخص في دائرة التأثير وعلقت العديد من الرحلات الجوية الى مطار اللد في سابقة نادرة الحدوث في التاريخ الاسرائيلي، كما تمكنت الفصائل المقاومة من خلال التنسيق عالي المستوى والتحليل العلمي الدقيق لقدرات «القبة الحديدية» من ان تتغلب عليها في كثير من الأحيان من خلال تكثيف عمليات القصف المتزامن بحيث يصبح عدد الصواريخ المطلقة في كل زخة واحدة يتجاوز سبعة صواريخ، مما يحدث إرباكا وتشويشا لوحدات المتابعة.
كما سجل إعلام المقاومة درجة عالية من المصداقية في سرد الحقائق الميدانية، فيما ارتكب أعلام العدو العديد من الأخطاء المقصودة وغير المقصودة وخير دليل على ذلك ما يتعلق بأسرى العدو من الجنود ففي كلتا الحالتين ثبت صدق إعلام المقاومة وكذب إعلام العدو الاسرائيلي.
كشفت هذه الحرب القناع الزائف عن وجه اسرائيل المجرم وكذب إدعاءات العدو وحلفاءه بأن اسرائيل واحة الديمقراطية في منطقة ملتهبة، وأنها الدولة الأكثر إهتماما بالأمن الإنساني وان جيشها الأكثر أخلاقية في العالم، فأعداد القتلى والجرحى في الجانب الفلسطيني بلغت 1869شهيدا و9569جريحا حتى هذه اللحظة جلهم من المدنيين وأكثر من ربعهم من الأطفال، فيما بلغت خسائر الجيش الاسرائيلي حسب بعض المواقع الإسرائيلية 497 جنديا وضابطا وجرح 879 غير حالات الانتحار والقتلى والجرحى من المرتزقة ثنائيي الجنسية.
وهنا يتضح جليا ان الجيش الاسرائيلي هو الأقذر بين جيوش العالم وأن المقاومة الفلسطينية هي الأطهر والأكثر أخلاقية، وهذا يؤكد ان المقاومة الفلسطينية استطاعت بكل جدارة تحقيق التوازن العملياتي مع العدو الاسرائيلي لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي.
يبقى السؤال الذي يبحث عن إجابة من الذي إنتصر في هذه الحرب التي لم تنته بعد؟
في البداية القاعدة تقول: إن عدم انتصار القوي هزيمة له، وعدم هزيمة الضعيف انتصار له، وتحدد نتائج الحروب بمدى تحقيق أهدافها وليس بمقدار ما يلحقه كل طرف بالآخر من قتل ودمار، تلخصت الأهداف الاسرائلية لحربها على غزة منها ما هي معلنة وأخرى غير معلنة، ويمكن تلخيصها بما يلي:
الأهداف غير المعلنة: هي القضاء على روح المقاومة من خلال تدميرها.
الأهداف المعلنة: تمثلت في تحقيق الأمن للمستوطنات الاسرائيلية والمجتمع الاسرائيلي ووقف إطلاق الصواريخ وصولا الى نزع سلاح المقاومة. ثم بدأ سقف الأهداف يتراجع نزولا الى هدف محدد في تدمير الأنفاق الهجومية، فهل تحقق أي منها؟ والإجابة قاطعة لا، الصواريخ استمرت في الســقوط حتى الدقيقة الأخيرة قبل دخول الهدنة حيز التنفــــيذ، فيما لا تزال العديد من الإنفاق قائمة فاعلة، وفيما تلخص هدف المقاومة في منع العدو من تحقيق أهدافه وكان لها ذلك، وفيما الوفد الفلسطيني الموحد يفاوض الطرف المصري نيابة عن الاسرائيلي لتحقيق المطالب الفلسطينية والتي يمكن تلخيصها في رفع الحصار وفتح المعابر وتشغيل المطار والميناء البحري وهذا يعتمد على التوازنات الدولية والإقليمية والتي هي للأسف تميل لصالح اسرائيل.
٭ خبير عسكري واستراتيجي اردني
اللواء الدكتور فايز الدويري
#فايز_الدويري