مواطنة بين زغرودة وصاروخ

{clean_title}
الشريط الإخباري :  
لن يجرؤ أحد على التكهن كيف ستنتهي هذه الهبة الفلسطينية، التي استدرجتها، هذه المرّة، اعتداءات المستوطنين المستوحشين، على المواطنين الفلسطينيين وعلى ممتلكاتهم في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة، لاسيما في القدس الشرقية، وتحديداً في حي الشيخ جراح، الذي يشهد، منذ سنوات، حملة تطهير شرسة من سكانه العرب، ومحاولات لتهويده، على غرار ما جرى ويجري في أحياء مقدسية أخرى مثل، سلوان وراس العامود وشعفاط وغيرها.
ليس من الحكمة الآن أن نبدأ بتحليل العوامل التي أدّت إلى استفاقة الميادين/الجبهات الفلسطينية الثلاثة وتحرك أهاليها – في غزة، وفي القدس، وفي الداخل الإسرائيلي – ضد سياسات إسرائيل العنصرية ونهجها واحتلالها؛ أو أن نفتش عما يجمع، أو ما يفرق، بين رشقات الصواريخ التي أطلقت من غزة باتجاه العمق الإسرائيلي، ووقفة المقدسيين البطولية في وجه المستوطنين وقوات الشرطة الإسرائيلية، والحراكات الشعبية على اختلاف تمظهراتها في معظم البلدات العربية داخل إسرائيل.
يشعر الكثيرون بحاجة لفهم ما وراء هذه التداعيات، خاصة في ما يتعلق بقرار الفصائل الغزية، في هذه اللحظة التاريخية بالذات، بإمطار مدن إسرائيلية بالصواريخ؛ أي بعد الإعلان عن إرجاء إجراء الانتخابات الفلسطينية، وفي حين كانت القدس الشرقية تتصدر عناوين النشرات الإخبارية في العالم، وتستقطب مشاهدُ كفاحات أهلها، غير المسلحة، ومواجهاتهم بصدور مكشوفة بنادقَ الشرطة والمستوطنين، الدعمَ والتضامن والإسناد من جميع جهات الأرض، وإعجابَ العالم وتقديره. على جميع الأحوال، سوف يحظى الجميع بفرص لتقييم ما جرى وما يجري على الجبهات الثلاث، بعد انتهاء المواجهات، وبعد عودة «المحاربين» الى ثغورهم؛ فالامور تقاس، دوما، بخواتيمها، والمحاصيل توزن بعد انتهاء مواسم الحصاد. وعلى الرغم من ذلك نستطيع اليوم أن نتحدث، على صعيد الداخل، عن بعض المؤشرات التي عكستها مشاهد المظاهرات والحراكات الشعبية والوقفات التي انطلقت، بشكل عفوي أو مخطط له، في العديد من البلدات العربية والمدن المختلطة داخل إسرائيل، مثل اللد والرملة وحيفا ويافا وعكا. ففي جميع هذه المدن والقرى وصلت حدة المواجهات بين بعض السكان العرب، وعنف قوات الشرطة واعتداءاتها الخطيرة، وبعض السكان اليهود المنفلتين، إلى مستويات غير مسبوقة من الحدة والصدامات والانفجارات؛ التي ستترك وراءها، من دون شك، أراضي مدمرة ومحروقة، وهوات أعمق بكثير من تلك التي كانت قائمة أصلاً بين المعسكرات قبل تلك المظاهرات والمواجهات.
لقد لمسنا، مرّة أخرى، نتائج غياب دور القيادات السياسية المركزية عن ساحات الأحداث، وشعرنا بعمق الفجوة بينهم وبين قطاعات واسعة من الشعب، خاصة بين فئات الشباب، وتيقنّا مجدداً من عدم قدرة تلك القيادات على إدارة الأزمة بمسؤولية وبجرأة وبحكمة، ومن فشلها الواضح والقاطع بضبط، أو محاولة ضبط، «إيقاعات الشارع» وتحركاته. وفي ظل غياب ذلك الدور القيادي الحيوي، راحت بعض المفاعيل السياسية والاجتماعية والدينية، تطور أساليب مواجهاتها، مع من يرونهم وكلاء الكيان الصهيوني الغاصب أو الكافر، بفوضوية مندفعة، في بعض الأحيان، وبثورية رومانسية، في أحيان أخرى، من دون أن يرفقوا بهبتهم أي أهداف سياسية محددة ومعلنة؛ بينما استغلت، من جهة أخرى، بعض القوى السياسية، والسياسية الدينية، ذلك الفراغ القيادي، فنزلت إلى «الشارع» وفرضت أجنداتها العقائدية، من دون أي اعتبار منها، في هذه الأوقات الحرجة، لما قد يلحقه خطابها الإقصائي والحماسي من أضرار على مصير العلاقات بين المواطنين العرب والدولة؛ أو ما ستؤدي له زغاريد الفرح العربي والشماتة بين المواطنين اليهود، كل اليهود.

مسؤولية القيادة الحقيقية، دائما وفي ساعات المحن الكبرى، أن تقف بالمقدمة وتحدد الأهداف المرجوة، وتُعِدّ للمواجهة السليمة الرابحة

أتصور أن البعض سوف يتنطحون لعدم شرعية هواجسي وخشيتي من المشاعر العدائية الجديدة، التي ستراكمها مشاهد المسيرات الصاخبة، وما رافقها أحياناً من انفلاتات وعمليات حرق لبعض الممتلكات والسيارات، التي ستضاف على ما كان في رصيدنا لدى أكثرية المجتمع اليهودي الفاشي؛ وستعبر عدة جهات عربية بيننا، بالمقابل، عن تفهمها لتدفقات الفرح الشعبي من جراء سقوط الصواريخ وإيقاع القتلى والأضرار في الجانب الإسرائيلي، تماما كما حصل في زمن إطلاق صواريخ صدام حسين صوب تل أبيب؛ وسيقول هؤلاء: ما ضرّ لو أعطيت للحزانى وللمقموعين فسحة عابرة للابتهاج وللشماتة، ولتخرب بعدها «بصرى»!
لن يقبل الكثيرون، رغم إغواءات العواطف، هذه المواقف على الإطلاق، فبالعواطف لا تبنى الأوطان، ولا تضمن السلامة ولا يتحقق الأمان؛ وسيبقى إعمال العقل بحكمة، ضرورة للدفاع عن مصالحنا في هذه الأوقات الحرجة. أتوقع، كذلك، أن تدّعي بعض تلك الجهات، وبحق، بأن الاحتلال الإسرائيلي كان وما زال هو الأب المولّد لجميع عمليات القتل والتدمير والموبقات الممارسة بحق الفلسطينيين، سواء في قطاع غزة، أو في الضفة الغربية والقدس الشرقية طبعاً؛ وسيدّعي مثلهم آخرون، وبحق أيضا، أن هبة المواطنين العرب في إسرائيل، لا سيما في المدن المختلطة، هي نقطة الانكسار المتوقعة والرد الطبيعي على عقود من السياسات العنصرية والاضطهاد، الذي عانت منه الجماهير العربية، وستعاني أكثر إذا ما مضت الحكومات الإسرائيلية المقبلة بتطبيق قوانينها العنصرية، وأهمها، وليس وحيدها، هو قانون القومية. ومع موافقتي على صحة تلك الادعاءت، فأنا، وأعتقد أن الكثيرين الصامتين معي، نرفض أن تُستغل تلك الادعاءات، من قبل أي جهة، كمبررات «لضياع الطاسة» النضالية، وكمسوّغات لترك الناس تندفع وراء عواطفها الصادقة ومشاعر غضبها المكتوم والمتراكم، جراء ممارسات إسرائيل وبطشها؛ فمسؤولية القيادة الحقيقية والأصيلة، دائما وفي ساعات المحن الكبرى طبعا، أن تقف بالمقدمة وأمام كل الناس، وأن تختار شعاراتها السياسية الملائمة والمجندة، وأن تحدد الأهداف المرجوة، وأن تُعِدّ للمواجهة السليمة الرابحة؛ خاصة ونحن نرى، في هذه الأيام، كلما تصاعدت وتائر الصدامات المباشرة، كيف تزداد الخسائر المادية والبشرية. وقد تستغل القوى الإسرائيلية الفاشية تلك الصدامات كذرائع إضافية على ما تجتره بصلافة من أجل الانقضاض على المفارق والشوارع، كما حصل في الرملة واللد والقدس وحيفا ويافا والتعرض للمواطنين العرب والاعتداء عليهم، وكسبب للإجهاز على ما تبقى من احتمالات لتأليف حكومة جديدة والانتقال السريع الى حكم فاشي متكامل، سيسارع أصحابه بالانتقام من جميع المواطنين العرب وتدفيعهم ثمن تجرؤهم على رموز الدولة، وتماديهم على يهوديتها المقدسة. فنحن إلى الفاشية أقرب من أي وقت مضى.
لا يمكننا إنهاء هذا المقال من دون التطرق إلى موقف الدولة المتنكر لنا كمواطنين ننشد المساواة المدنية والقومية؛ ولئن طالبت دوما بضرورة إعادة نظرنا، نحن المواطنين العرب، بطبيعة علاقاتنا مع الدولة التي ما زالت مبنية على نظريات وفرضيات حددتها معطيات السنوات الأولى بعد النكبة، أعرف أن على الدولة  التخلي، أو علينا إجبارها أو إقناعها على التخلي، عن اعتبارنا زوائد ضارة يجب التخلص منها؛ فالمواطنة، التي أسعى وراءها، إذا لم تجد دفيئتها، ستصبح مستحيلة؛ وفي ظل أكثرية يهودية عنصرية كاسرة، ستصير المواجهات بين ابناء تلك الأكثرية ومواطني الدولة، غير المرغوب فيهم، حتميةً وداميةً؛ تمامًا كما نشاهد اليوم في جميع مواقعنا؛ علما بأن بعضنا يؤمن أن لا شيء يمكن أن يوقف التدهور نحو الفاشية، سوى بلوغها منتهاها. أمعقول أن يكون هكذا؟
سننتظر حتى رحيل العاصفة الحالية، وبعدها سنقيّم الأضرار والنتائج ونحك عقولنا لنواجه ما استجد من تحديّات؛ ثم نستأنف محاولاتنا لمواصلة مسيرتنا نحو شاطئ النجاة.. والحياة، كمواطنين متساويين أحرارا، وليس في ظل الفاشية التي يجب أن نمنعها من أن تبلغ منتهاها.
جواد بولس
كاتب فلسطيني
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences