ماذا بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس؟
نضال منصور
تخلى الرئيس الأميركي، جو بايدن، عن سياسة أوباما بقيادة العربة من الخلف، واضطر إلى الاشتباك المبكر مع ملف الصراع العربي الإسرائيلي.
كان بايدن ينأى بنفسه عن الغوص في هذه القضية المقعدة والمتفجرة، لأنه يعرف ويدرك أن كل أسلافه من الرؤساء الأميركيين مهما كانت مواقفهم، وتوجهاتهم، قد فشلوا في تحقيق إنجاز يذكر في حل القضية الفلسطينية، ولهذا فإنه لم يضعها على سلم أولوياته، واختار مبعوثين للتعاطي مع ملفات ربما تكون أقل أهمية وتأثيرا في العالم، وتجاهل الشرق الأوسط.
فرضت انتفاضة القدس، وما تبعها من عدوان إسرائيلي على غزة، على الإدارة الأميركية أن تُعيد توجيه البوصلة، وأن تحاول نزع صاعق الانفجار الذي يهدد المنطقة برمتها، فأمر بايدن وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، بحزم حقيبته والتوجه إلى المنطقة في محاولة لبناء تفاهمات ترسخ الهدنة ووقف إطلاق النار، وتفتح الباب لكسر الجمود في العملية السياسية التي نسف أسسها الرئيس السابق، دونالد ترامب، بالشراكة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو.
ماذا بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس؟، هل ستكون الهدنة كسابقاتها مرحلة مؤقتة من توقف القصف والصواريخ لتعود المأساة من جديد، أم أن هذه المعركة مختلفة، وقدمت للعالم حقائق لم يعرفها من قبل؟
حاولت أميركا أن تقلل من سقف التوقعات لزيارة بلينكن، فاختصرت الأمر، بالتأكيد على أنها محاولة لخلق مناخ إيجابي يحقق لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين معايير متساوية لتحقيق الأمن والكرامة، وخلق فرص أفضل.
قبلها كان بايدن يقول في بيان له إن الزيارة تريد متابعة دبلوماسية أميركا الهادفة والمكثفة، والالتزام بأمن إسرائيل، ودعم الشعب الفلسطيني بعد سنوات من الإهمال، وضمان وصول المساعدات لغزة، والحد من فرص اندلاع الصراع قريبا.
كل هذا الكلام لا يقدم ولا يؤخر، واستبقت مصر والأردن والسلطة الفلسطينية الزيارة باتصالات، ولقاءات مكثفة للتوافق على رسالة مشتركة للإدارة الأميركية.
تتجنب إدارة بايدن الاشتباك مع حماس، وتصر على أن قناة اتصالها مع السلطة الفلسطينية، لكن المتابعين يرون أيضا أنها تتجنب التصعيد في خطابها ضد حماس، وربما ما يستحق التساؤل، هل ستفتح الإدارة الأميركية قناة خلفية للاتصال مع حماس عبر مصر وقطر مثلا؟ تمهيدا لاجتماعات ولقاءات مباشرة بعد ذلك، فالسياسة لا تعرف المحرمات، والتاريخ يثبت هذه التحولات، وموازين القوى، وتبدله على الأرض تجعل ما كان مرفوضا مقبولا وضروريا، فأميركا كانت تنظر لحركة طالبان باعتبارها إرهابية، وبعدها تفاوضت معها، وتعاملت معها.
انتفاضة القدس فرضت إيقاعا سياسيا جديدا في المنطقة، وحتما ستُعيد ترسيم العلاقات على نحو مختلف، وكثير من التابوهات ستسقط في سياق التعامل مع المستجدات والاستحقاقات القادمة.
في عمّان، يحتدم النقاش عن ضرورة عودة العلاقات مع حماس، وينتقد الشارع الحكومة لتفويتها فرصة دعوتها والاجتماع معها خلال الأزمة، ويعارضون أن تضع الحكومة كل "بيضها" في سلة السلطة الفلسطينية، ويعتبرون أن تردد الحكومة في هذا الإجراء أضعف حضورها السياسي في المشهد، وأعطى للدور المصري والقطري أفضلية واضحة.
انتفاضة القدس تُلقي بظلالها على المشهد الداخلي في عمّان، والمرجح أن تُسهم هذه الأحداث بحالة انفراج نسبي في العلاقة مع "الإخوان المسلمين"، وكان ملاحظا أن الحكومة وأجهزتها الأمنية لم تشدد قبضتها لمواجهة دعوات الحركة الإسلامية للحشد للتظاهرات والاحتجاجات، حتى وإن كانت موجهة للحدود مع إسرائيل.
وكان لافتا كذلك أن الأردن لم يستثمر في علاقاته مع الداخل الفلسطيني لإزعاج نتنياهو، واليمين الإسرائيلي، فخطوة كاللقاء مع قادة الكنيست العرب، ورؤساء البلدات العربية في عمّان "ضربة معلم" تؤشر لأوراق الضغط التي يملكها الأردن كلاعب رئيسي لا يمكن تهميشه، وهو ما لم تفعله، وربما يكون على أجندة الحكم في قادم الأيام.
صدى صواريخ حماس التي وصلت إلى تل أبيب ما زالت تُسمع في عمّان، وتُلهب مخيلة الشارع، وقد تدفع الحكومة لتُعيد وصل ما انقطع مع إيران وسوريا، وقد تنشط العلاقات بوتيرة متسارعة مع الدوحة، وقد يعرقل التناغم والاندفاع مع الدول الخليجية التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل خلال حكم ترامب.
عمّان محطة لوزير الخارجية الأميركي حكما، ولكن زيارة العاهل الأردني لواشنطن للقاء ببايدن تأخرت، والمؤكد أن ما حدث سيُعجل في ترتيبها فالأردن يطمح أن تمضي الإدارة الأميركية في خطوات أبعد من إطفاء الحرائق في الصراع العربي الإسرائيلي.
لن يجد الرئيس بايدن فرصة أفضل لتنفيذ ما وعد به بالدعوة لمؤتمر دولي للسلام، أكثر من الآن، فالعالم غاضب من الانتهاكات الإسرائيلية الفاضحة، والصوت المؤيد للحق الفلسطيني بدأ يعلو حتى داخل أروقة البيت الأبيض، والكونغرس، وكل المحاولات التي بذلها ترامب لطمس القضية الفلسطينية باءت بالفشل الذريع.
الخطر في اتجاه آخر أن تكون كل هذه الدبلوماسية النشطة في العالم هي فقط لاحتواء "النصر" الفلسطيني، ومنع قطف ثماره السياسية، وقنابل دخانية للتعمية على جرائم الحرب الإسرائيلية، والدفع بقصة المساعدات الإنسانية والاقتصادية، وإعمار غزة، إلى الواجهة بعيدا عن أي أفق سياسي، وإغراق وإلهاء "السلطة وحماس" في الصراع على من يتلقى المساعدات، وهذا يرسخ ويعمق الانقسام، وهذا قد يكون مطلوبا ومرحبا به عند بعض الأطراف دوليا.
ما تزال السلطة الفلسطينية، رغم ضعفها تملك فرصة ذهبية لإعادة إنتاج شرعيتها، وأول الخطوات المطلوبة تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم كل الفصائل تتقدمها حماس، ولها في التجربة اللبنانية نموذجا، وثاني المهام المطلوبة استكمال العمل لإنجاز الانتخابات التي أرجأت، فملف القدس ما زال مشتعلا، وهي فرصة لاستكشاف الضغوط التي يمكن أن تمارس على نتنياهو الذي يتهاوى حكمه، وبلفظ أنفاسه الأخيرة، ففي حربه على غزة التي خاضها بالتحالف مع اليمين الإسرائيلي المتطرف لم يقضِ على حماس، بل عزز صورتها شعبيا، وأعطاها نفوذا سياسيا لم تكن تحلم به من قبل.
بعد الهبة الشعبية، والصمود الفلسطيني، لم تعد القصة القبول بفتات المساعدات، وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، وإنما إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، والاعتراف بالحقوق الفلسطينية التي لا يمكن إنكارها، ومساءلة إسرائيل عن جرائمها.