غرباء معهم هوية!
الشريط الإخباري :
عائشة الخواجا الرازم
عشناها وها نحن نحياها، غربة عن أنفسنا وعن أقرب الناس إلينا، عشناها مساحات واسعة، نذرف الدموع شوقاً ليوم مشرق نرى فيه وضوح النهار ونتعرف على حالنا، هل نحن قادمون أم مغادرون؟.
يتعمق فينا الإدمان على فكرة المغادرة، فنتوه بين طوابير الناس.
تأسرنا قاعة المغادرين، لأن إدمان القاعة مطبوع على جباهنا (هي قاعة فيها حقائب مقفلة جيدا) جديدة محشوة بشتى أصناف الهدايا والممتلكات الصغيرة الشخصية تلك الهوية.
كل قد أعد العدة وهو يتذكر (البقجة) لكنها بقجة على شكل حقيبة كبيرة بقفل على أسرارها ومفاتيحها في علم الغيب.
تأتينا أخبار الفصول وتحولاتها في قاعة الانتظار، فننهمك بالتأمل وتقليب الصفحات المتسارعة، وذراع الواحد منا قابضة على البقجة الحقيبة. كأنها ستسبق إلى قطار الرحيل حاملة ما بذل وحمل وكنز في حقيبته.
يعتقد أنه سيفوز بقطار المغادرة ويقنع نفسه بأنه يسمع صفير قطار العودة بعد ذاك الانتظار.
يخطو أول خطوة نحو قطار المغادرة سعيدا بأن في الأمر بعد المغادرة المكنوزة بحشوة البقجة قطارا اسمه قطار العودة.
فما أن تخطو القدم أول الصعود حتى تأتي إشارات من كل القطارات متسارعة بالوميض، تعمي العيون، وتحذفنا عن مسار الركوب والصعود.
تجعلنا نشعر بأننا تأخرنا عن اللحاق بالقطار الصحيح.
ولكننا في نفس الوقت نشاهد طوابير يقلع بها نفس القطار الذي رفضنا.. فكيف فوجئنا بأنه ليس لنا؟ وليس نفس القطار الذي قطعنا تذكرته وحزمنا (البقجة) وانتظرناه في قاعة المغادرين.
نكتشف أنه وقد هرع الآخرون وجلسوا (بفرقونات) نفس القطار فلا بد أننا كنا إما متأخرين أو أننا نسينا تاريخ تذكرة المغادرة الذي انتهى، بحكم انشغالنا وانشغال أفكارنا بإعداد عدة العودة في نفس الحقيبة ذاتها. أو أن العقل فينا ترك للعاطفة والخيال خلال الانتظار مع حقيبة المغادرة، أوهام استخدام نفس الحقيبة للعودة..! وأن ما يحمله المغادر يختلف بعدته وعتاده عما يحمله في حقيبته للعودة.
ونشعر أننا في المحطة غرباء لا تحتملهم صافرات القطار البطيء ولا ترن لهم وتعزف صافرات القطار السريع.
يطول الوقوف والانتظار، وتفتح النوافذ وتشرع في تغيير هواء المحطة، فيصفق الريح وجوهنا وتتطاير حقائب السفر الخفيفة التي جئنا نحملها فارعين (دارعين) أمام الناس، لنقول لقادة القطارات ها نحن هنا، ونشعرهم بأننا زهدنا في الأحمال كما أرادوا، ونقول لهم اليوم سيتوقف لنا القطار فنحن اليوم غير الامس.. لا نحمل سوى الهوية، فها نحن قد سعينا للتغيير، وحملنا حقائبنا فارغة وخفيفة الوزن فلا نثقل على (فرقونات) القطار.. إلا من هوية!.
نسمع صفير القطار مخيفا خائفا أكثر من ذي قبل.. يرتج ويفزع الأرض من وزن ما نحمل..
فنقف نلوح بأذرعنا صارخين:
توقف أيها الركب، يا قطار الانتظار توقف، فقد غيرنا عدتنا وعتادنا في بطون الحقائب، وفرغناها ورميناها، ولا نحمل سوى أثبات الشخصية.
لا نحمل سوى الهوية.. فيتركنا ويحمل كل الطوابير المحملة بالأثقال والأوزان..
ويطل الهجير علينا من كل الجهات، فيتركنا القطار ويمضي بعيداً عنا.
يركب الناس ونحن نهفو للركوب. ثم نقترب من السكة في الطريق ونلوح للقطار الجديد، حتى لو أمطرت وأعادتنا للشعور بأن في المسار سيحضر السريع الجديد.
يطول الترقب....فنحن ننطوي على ترقب لا ينتهي
كل المواقف والمحطات التي انتظرنا القطار فيها محفور عليها كلمة غريب..