رواية "أغنية للشرفة" لـ "جميلة عمايرة"
الشريط الإخباري :
نبؤة العرّاف اخبرتنا انه سيموت ناشفا
الحل هو الغناء الذاتي والبوح للأوراق
نعم هي ملهاة تراجيدية
سعيد الصالحي
هذه الأغنية التي كتبت كلماتها الروائية والكاتبة جميلة عمايرة لم تجد من يلحنها ولم تجد فرقة موسيقية تعزف خلف من سيغينها بسبب وباء كورونا حيث التزم الكل مكان سكنه، فصارت الأغنية رواية تسجل أحداث أربعة أشهر عاشتها الكاتبة كما عاشها أغلبنا بين محاول للفهم ثم رافض للتصديق ثم مشكك بكل ما يسمع ويرى من أحداث ترضعه له الايجازات الحكومية اليومية كرضعة الاطفال في موعد محدد، تحدثت الروائية العمايرة عن معاناتنا جميعا في منازلنا خلال هذه الفترة ومن حسن حظي أنني أستطعت من خلال هذه الرواية أن أعوض ما فاتني من أحداث محلية يومية خلال فترة الحجر لأنني كنت ممن تقطعت بهم السبل ودفعوا ثمن هذه الترتيبات المحلية والعالمية بمشاعر محلية ولكن بالعملة الصعبة مع مراعاة فروق القلق والتوقيت أيضا.
كتبت عمايره (أعني أشبه الخيّاطة. أكون بينلوب أخيط بالنول وأغزل الصوف وأنسجه بمختلف الألوان. ص 60) وهنا تبدأ الروائية بغزل الملهاة بين خيوط نولها بذات الهدوء والصبر والأمل التي كانت بينلوب تتسلح بهم وتنتظر عودة أوديسيس، وكأن كل ما نعيشه من أحداث ليس أكثر من ملهاة عصرية لم يتفتق ذهن أحد من الاغريق لها من قبل، كيف لا وكل عناصر الملهاة متوفرة؟ عدو ووحش أسطوري يجيد التخفي، وممارسات بيروقراطية استعراضية تحدث على الارض ليشعر العامة أننا قادرون على مواجهة هذا الوحش الاسطوري بسيوفنا ودروعنا ولا حاجة لنا لتعزيز هذه الاساطيل بالمستشفيات والادوية لأن نبؤة العراف أخبرتنا أنه سيموت ناشفا إذا أحكمنا سيطرتنا عليه وقبعنا في منازلنا ولم نعطه ونطعمه المزيد من لحومنا الغضة وعظامنا الطرية، نعم هي ملهاة تراجيدية لا تشبه الاوديسا في نهايتها لأن الوحش الأسطوري زاد فتكا بنا وغير كل حياتنا ولم يتمكن البطل من العودة ابدا.
(ها أنا أغني يا مريم. ص 90) هكذا علقت الكاتبة على قصيدة أرسلتها لها صديقتها الشاعرة مريم ريان التي تقيم في الخارج ولا أعرف لماذا استحضرت على الفور من بين عشرات ومئات الأغاني التي أحفظها أغنية للفنان والشاعر الكردي المقيم في المانيا "شيفان برور" ؟ عندما رد على المطرب والفنان السوري "سميح شقير" الذي طلب منه أن يغني فيما مضى بأغنية "لي صديق من كردستان" قائلا: ها أنا صديقك من كردستان أغني، نعم فالكاتبة تعيش في أزمة جديدة ونوعية ولم تسعفها خبراتها المتراكمة ولا ثقافتها أن تجد السبيل الأمثل لمواجهتها فكان الحل هو الغناء الذاتي والبوح للأوراق بغض النظر عن الحالة النفسية وتكرار المشاهد اليومية بين التأرجح في الشرفة أو القفز بين الذكريات أو الهروب من الاحلام إلى كوابيس الواقع الرتيبة والتي تتحول إلى واقع عصيب عندما يبرد فنجان القهوة وتنفذ علبة السجائر.
وطوال صفحات الرواية تجود علينا الروائية جميلة بذكر أدباء وكتاب وشعراء محليين وعرب وجدت أنه من الواجب ذكرهم وتعريف القراء الجدد بهم من باب الوفاء لهم ولدورهم في الحياة الثقافية وحياتها بشكل خاص، إضافة إلى العديد من المعلومات حول الرسم والغناء.
وكان الشعور الاصعب في الرواية هو الحنين إلى الحياة اليومية البسيطة التي باتت الكاتبة تفتقدها من أصوات الباعة وروائح الخبز والأطباق الشعبية، وليس غريبا بالنسبة لي أن تكون مصر حاضرة عند الحديث عن الحنين فمصر هي بوابة الشرق وسحر العالم القديم وكأنها المادة الخام ومصدر الشوق والالهام للكتابة، فقد تمكنت كاتبتنا أن تشعر بحاراتها التي تغيرت ملامحها بعد أنا عادت من مكالمة طويلة مع القاهرة والنيل والاسكندرية التي اشتاقت لهم مثلما كتبت (أتذكر الاسكندرية ص85).
ولم تغب السخرية في الرواية من باب "هم يضحك وهم يبكي" فقد سجلت الكاتبة للتاريخ معظم النوادر التي أشعلت وسائل التواصل الاجتماعي وشغلت الرأي العام كحادثة الضبع وحكاية كلب أربد بالاضافة إلى المسؤول الذي ربما يحترف التمثيل في يوم من الأيام نظرا لشعبيته التي كانت تتناقص كلما ازدادت أعداد المصابين، وقد تلاعبت الكاتبة بكل خفة ظل بنطق لقبه الشعبي من خلال الحوارات التي تأتي على ذكره وغالبا ما كانت تدور هذه الحوارات فيما بينها (صوت الراوي) وبين والدتها التي كانت صوت الشخصية الأبرز وأن لم يكن الوحيد، هذا الصوت الذي كان يشعرنا بتلقائية وحكمة وخفة ظل أهلنا الذين تعودوا على أن يكونوا على طبيعتهم عندما يتعاطون مع أي أمر.
كنت أتمنى على الروائية جميلة عمايرة أن تتطرق في روايتها إلى من تقطعت بهم السبل خارج البلاد، ربما لأنني كنت واحدا منهم ولأن من سيقرأ الرواية بعد سنوات لن يشعر بأن هناك فئة كبيرة قد أوصد باب المطار ومنافذ الحدود في وجهها وعاشت الجائحة بجسد واحد وروحين، ومن ناحية أخرى كان لا بد من التطرق إلى الفوائد الايجابية لهذه الجائحة على الرغم من محدوديتها والتي ينبغي علينا الاستمرار بها، وكذلك حبذا لو توسعت الكاتبة في التركيز على المشاريع الانسانية التي تأجلت أو ألغيت من فرح أو وظيفة جديدة أو موعد غرامي بسبب هذه الجائحة بذات الطريقة التي وصفت بها مشاهد الموت والجنازات.