شاشات التذوق ومعنى الحياة
الشريط الإخباري :
في السكن أيامَ الدراسة الجامعية طبخنا «منسفاً». ومن فرحنا التقطنا له صورة بعثناها، على سبيل المناكفة، في اليوم التالي، إلى صديق لنا في موسكو بالبريد. وقد كتبنا على ظهرها: روّق يا حبيب، ليت التكنولوجيا تقدر على حمل المذاق والمخبر، كما حملت اللحم والمظهر. لم يتأخر ردُّ صديقنا سوى ثلاثة أسابيع، فعادت الصورة ومكتوب تحت ما كتبناه: لا بدّي أذوق، ولا أروق. ترا إنتو طابخين مقلوبة، مش منسف. فضحتونا.
تذكرتُ الواقعة المُمنسفة، وقد مرّ عليها أزيد من 28 عاماً، حين قرأت عن تمكن البروفيسور الياباني في جامعة ميجي، هومي مياشيتا، من ابتكار نموذج لشاشة تتيحُ تذوّق الطعام، فضلاً عن مشاهدته وسماعه، بفضل سطح دائري يُلعقُ باللسان، يتكوّن من 10 نكهات يمكنها محاكاة مذاقات كثيرة بدءاً من الشوكولاتة وصولًا إلى البيتزا.
طالما كان الخيال البشري أسبق من العلم وتطبيقاته التكنولوجية. فقبل أمنيتنا بنقل مذاق طبختنا إلى صديقنا بأيام، تمنينا بدموعِ شوق ولهفة، لو أن أسلاك الهاتف تغدو قادرةً على حمل رائحة الأمهات في الوطن، مثلما تتيح لنا أصواتهن العامرة بالدفء والحياة. واليوم، على ما يبدو، باتت جلُّ الأماني على أرض الشاشات: صورنا الفورية، أصواتنا، روائحنا، مذاقات طعامنا، ولمساتنا.
يبدو لي بعد كل هذا أن الاختراعات الحاملة للصور والمذاقات والروائح واللمسات تقول بلسان طلق ودون مواربة: عشْ في فقاعتك وحيداً أيها الإنسان، والعلم كفيل بنقل كلّ شيء إليك. ستحب عن بُعد، وتتعلم وتتذوق وتتزوج كذلك عن بُعد. لا تتعب نفسك. ابق مكانك. الأشياء كلها تأتي إليك.
لكن ومع فرحي بالتفوق البشري، إلا أنني لا أكاد أصدق أن مذاق المنسف العابر للشاشات سيغني يوما عن لمة أصدقاء يأتلفون حوله كتفاً بكتف. ولا أكاد أتفهّم أن تلك التقنيات، مهما بلغت من الدقة والحساسية؛ ستجعلنا نحسّ بمعنى الحياة وفحواها.
الحياة شيء آخر. كأن تتذوّق لمسات أصابع طفلك في مهده الأول. أو أن تسمع رائحة حبيبك وتتشرّب دقات قلبه إن كنتم في مظلة تحميكم من حبال المطر. الحياة أن تطير كغيمة عطر إذ تهمس طفلتك في أذنك بكلمات مدغدغة رطبة. هي أن تكون قادرا على عيش معنى الدمعة العالقة في حرف عين أبيك إذا ودعك في سفر. الحياة شيء آخر، لن تستطيع الموجات الكهرومغناطيسية أو شاشات ذكية نقله، أو نقل إحساسنا به.