الكتابة ضد النسيان .. العميد صبحي الجابي أول رئيس أركان لجيش التحرير الفلسطيني
الشريط الإخباري :
سليم النجار
لن أغامر بتقديم العميد الركن المتقاعد صبحي الجابي أول رئيس لجيش التحرير الفلسطيني للقارئ العربي بشكل كلاسيكي، لأن محاولة مثل هذه ستكون ضربًا من العبث المجاني، فاسم هذا العسكري العربي الفلسطيني متداولًا على نطاق واسع في العالم العربي، لكن ما أتوخّاه في هذا المقام، هو التأكيد على أهمية التعريف به، والدور الذي لعبه في بناء جيش التحرير الفلسطيني.
إذا اعتبرنا أنّ هذا الكتاب رسالة يريد الكاتب إيصالها للقارئ، فللحقّ أقول أن الرسالة قد وصلت، بل تمكّن من البرهنة على قدرته وتوازنه النفسي في التعريف بنشأة هذا الجيش بعيدًا عن الهوى والرؤية الأيديولوجيّة..
يُحدّثنا الكاتب حديثًا صادقًا، ويدعونا لمرافقته في رحلة حميميّة بدأت منذ الطفولة، رحلة حياته الحافلة والصاخبة، لأن الحياة الهادئة الآمنة لا تصلح لكتابة مذكرات.
كان الصيف على ما يبدو موعد الذكريات المفضّل لدي، ففي هذا الشهر ازددت تساؤلًا عندما سمعت لأول مرّة عن جيش التحرير الفلسطيني، ما زلت أتذكّر هذا الاسم وأنا اقرأ خبرًا عنه في صحيفة القبس الكويتية، وأنا أسير في حارة سوق الصباح بمدينة الفحاحيل التي ترعرعرت فيها، والتي تعج ببقّالات تحمل اسم فلسطين، ومكتبات قرطاسية، ومحلات مهجورة بانتظار التضمين، واصلت المشي الذي كان أشبه بالهروب، حتى وصلت نهاية الشارع، حيث سور ثانوية الفحاحيل للبنين بجانب شارع المضخة، قطعت باتجاه الذهاب بحذر، والإياب بتهوّر، أقف أمام مطعم مدبولي الشهير لطلاب الثانوية، لا أعرف السبب الحقيقي الذي دفعني للبحث عن سيرة الجابي، لكن كل ما أتذكره في ذلك الوقت أنّه من نابلس، وهذا الاسم عزيز على قلبي، وكيف لا ووالدتي رحمها الله من نابلس، وما بين الشوق لها، ولحظة التذكّر، قرأتُ سيرة الجابي، والتي جاءت على الشكل الآتي:
وُلد في نابلس-فلسطين عام ١٩٢٩م.
تلقّى تعليمه الثانوي في مدينة نابلس فنال الشهادة الثانوية -ماترِك فلسطين- من كلية النجاح الوطنية عام ١٩٤٨ دورة آذار/ نيسان، وتخرّج من جامعة دمشق حاملًا الإجازة في اللغة الإنجليزية، ودبلوم الترجمة من الجامعة نفسها.
مرشّح دكتور من معهد العلوم الشرقية في الاتحاد السوفيتي.
عمل ضابطًا في القوات المسلحة السورية، ورئيسًا لأركان جيش التحرير الفلسطيني.
عضو اتحاد الكتّاب العرب منذ عام ١٩٧٨، جمعية البحوث والدراسات.
ترجم أكثر من ٤٠ كتابًا مطبوعًا عن اللغة الإنجليزية.
من كتبه: مُذكرات أول رئيس أركان لجيش التحرير الفلسطيني العميد الركن المتقاعد صبحي الجابي/إصدار دار الرسالة - ٢٠٠٧.
كان الحزن قريبًا مني أثناء قراءة الفصل الأول الذي حمل عنوان "الدخول في المعترك السياسي والعسكري"، حيث يروي الجابي في هذا الفصل:
"لم يُتح لنا في وقت الدورة أن نشارك في القتال الجاري في فلسطين على مقربة منا بالرغم من حماستنا للمشاركة، إلّا أنّه أُتيح لنا أن نقوم بجولة للتعرف على منطقة الجليل الواقعة شمال فلسطين والتي تدافع عنها قوات جيش الإنقاذ".
الآن عرفت سبب الحزن وأترك للقارئ معرفة سبب حزني..
في نهار عمّاني يميل للصيف، كان حضور البرد ما زال حاضرًا من بقايا الشتاء، ارتديت سترتي السوداء وفي جيب سترتي شريط موعد، تأكدت حينها أنّها صورة لحلمي، تمامًا كما شاهدتها في الحلم، حارة الفقوس ودوّار الساعة، وحارة الياسمين، وشاهدتُ عبدالحليم بشعره الطويل المفروق على الكرسي، وتذكّرت عشقي الأول الذي تم رفضه لكوني فلّاح، وطامتي الكبرى بأنّي لاجئ، لا أعرف لماذا هذه الأيام تطلّ على قلمي، قد يكون السبب الفصل الثالث للجابي الذي جاء بعنوان "السفر إلى نابلس بإجازة"، حيث جاء فيه:
"في هذا الجو السياسي المشحون في الأردن، حصلت على إجازة لزيارة أهلي في نابلس، فاستأجرت سيارة عمومية وذهبت إلى هناك مع زوجتي وابنتي إيمان، وبعد مكوثي في بيت والدي يومين أو ثلاثة، فُرض نظام منع التجول على المدينة، فاضطررت إلى مغادرتها بعد أخذ إجازة مرور من قائد منطقة نابلس العقيد حابس المجالي، أحد كبار الضباط الأردنيين المرموقين، وألصقت إجازة المرور على زجاج سيارة الأجرة ومررت على مختلف الحواجز العسكرية وكان منع التجول يشمل كافة مدن المملكة، إلى أن وصلت الحدود الأردنية السورية".
سفر جديد مع كتاب العميد الجابي، توقّفت عند الفصل التاسع الذي دفعني لسؤال داخلي لم يكن الجهر به مسموحًا، هل جاء اليوم الذي سيكون فيه للفلسطينيين جيش؟
"بناءً على قرارات المؤتمر الثاني لمجلس الملوك والرؤساء -مؤتمر القمة الثاني- المنعقد في الإسكندرية في سبتمبر ١٩٦٤ والذي أيّد فيه مشروع تشكيل جيش التحرير الفلسطيني المقدّم من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية"
وحتى لا تتصور عزيزي القارئ أنّ هذا الخطاب نتج عن هذيان كاتب منعزل مرتد، فالذي دفعني لكتابة كل هذا هو الفصل العاشر للجابي، والذي سطّره بعنوان "أهم الأحداث في عام ١٩٦٨ وتكليفي بمهام القائد العام"، وبما أنّ لكل إنسان حدثه الخاص به، فقد تصوّرت أن يُضاف إلى سيرتي أنّي كنت عاشقًا من أولئك العشّاق الذين إذا عشقوا ماتوا، لهذا، لتكن "حنان"، يساريّة تضع صليبًا، وهذا التناقض ربّما كنتُ أتقصّده..
المهم، وبعد أن سردتُ حدثي، أعود للفصل العاشر الذي جاء فيه:
"وقد اشتركت في حرب تشرين التحررية، بعد أن أفرزت إلى شعبة العمليات التي كان يرأسها اللواء عبد الرزاق الدردري رئيسًا لاتجاه الفرقة السابعة التي كان يقودها العميد عمر الأبرش وقد مُنحت وسام الشجاعة"
تشير مذكرات العميد الجابي إلى عبور بحر الحياة، إلى مصارعة أمواجها العاتية واختناقاتها العنيفة سعيًا إلى الاكتمال والكليّة، والمذكرات أيضًا من رموز التحوّل، هي بحث عن مفقود، والمفقود هو فردوس خالد، والمذكرات سلسلة من المفرّات والحواجز والعقبات والاختبارات، وكل عبور لكل حلقة من هذه السلسلة يقرّب المرء أكثر من الاكتمال، ومن تحقيق الذات وزمن اليقين، المذكرات عبور من النور إلى الظلمة أو من الظلمة إلى النور، من الحياة إلى الموت، ومن الموت إلى الحياة، هكذا كان صبحي الجابي في مذكراته..