خفايا وألغاز «الاثنين» وما لا يقال عن «الإضراب وخصومه»: كيف قرأ «عقل الدولة» استجابة الأردنيين؟
الشريط الإخباري :
طبيعي جداً أن تكره الحكومة، أي حكومة، برامج «الإضراب والمقاطعة» خصوصاً في الحالة الأردنية الاقتصادية المفتوحة على «وضع معيشي» صعب ومعقد.
لكن ما هو غير طبيعي سياسياً وإعلامياً على الأقل هو بروز «حالة صدام بيروقراطية» غير مبررة تعقبها «خصومة وعداء وتشويه» يمكن الاستغناء عنهما مع تلك المنهجيات السلمية في التعبير، التي تبحث عن «علامة تحدث فارقاً» في إظهار التضامن أولاً مع قطاع غزة.
في مقاربة السياسي الأردني مروان الفاعوري، التي سمعتها «القدس العربي»، هذه النمطيات البسيطة الأولية في التعبير مثل «المقاطعة والإضراب والتظاهر» لا تدل فقط على «قصور» في تقدير البوصلة الحكومية لمشاعر ومواقف الشعب، بل أيضاً على «تعبير غير مباشر» يمثل معادلة «الحد الأدنى المتاح» في مواجهة «العجز القومي والعربي وأحياناً الوطني».
يضم فاعوري صوته للمستغربين من «غضب الفعاليات الرسمية» من تلك التعبيرات الشعبية التي تبحث عن أقل الوسائل كلفة في التفاعل مع سلسلة جرائم «شريك السلام الإسرائيلي والحليف الأمريكي» ضد شعبنا الفلسطيني، ثم يرى أن الشعب الأردني يستحق أن يقول كلمته بالطرق التي يراها مناسبة.
يحاجج كثيرون في الصف الرسمي بأن «الانتاجية» ثم التبرع لأهل غزة هي البديل الأفضل عن «الإضراب والتوقف عن العمل» وبأن «المساس بالمصالح الاقتصادية» جراء تكرار التظاهرات والمقاطعة لا ينطوي على «أي خدمة» من أي صنف للأهل الذين يتعرضون للجرائم البشعة في فلسطين المحتلة.
ويحاجج هؤلاء أيضاً بأن «المنهجية العلمية» وأحياناً غياب المؤسسية ثم بروز «بعض الكيدية التجارية»، هي عناصر ترافق حملات المقاطعة التي تتذرع بالعدوان الإسرائيلي أو لا تقدم النصح الإيجابي المنتج.
ذلك صحيح ويحصل، لكن يمكن النظر إليه باعتباره «كلفة محتملة» قياساً بحجم وشراسة وإجرام حرب الإبادة التي تجري للأهل في قطاع غزة الصامد.
ويقدر المحلل السياسي الإسلامي الدكتور رامي العياصرة، وهو يتحدث مع «القدس العربي» بأن «التظاهرات» لا يمكنها أن تكون «الخطوة الوحيدة» في إطار التضامن، ولا بد من مقاربات إبداعية أكثر تخدم قضية الشعب الفلسطيني.
ثم يضيف عياصرة ويتفق معه فاعوري، بأن المسألة عندما تتعلق «بكرامة الأوطان ثم الاحتلال» لا يمكن حسابها مالياً أو اقتصادياً على طريقة وزراء المالية في الدول النامية.
الأهم، في رأي بعض الاجتهادات، أن الحكومة ينبغي أن توقف تلك الذهنية التي تفترض بأن الوسيلة الوحيدة الأفضل لـ «حماية مصالح الأردنيين»، دولة وشعباً، تتمثل في الحد من حريات التعبير والتظاهر وضبط الشارع فقط، ومخاصمة حيثيات الإضراب والمقاطعة التجارية؛ ليس لأن الحكومة «مخطئة» هنا، بل لأن الحدث ضخم وخطير، والمملكة تجاوزت شعبياً ورسمياً مرحلة «إنكار المخاطر».
القصة طبعاً أعمق من ذلك بكثير، لكن المحاججات ومعها التجاذبات النقاشية تزاحمت مجدداً في المشهد الأردني مع «النجاح الحساس» لإضراب الإثنين الموصوف بـ «العالمية»، والذي أخفقت الحكومة بوضوح في التحذير من الالتزام به على أساس أنه يخص الدول التي فيها حكومات «لا تطالب بوقف العدوان»، بينما الأردن في صدارة الدول التي لا تقف عند حدود المطالبة بوقف العدوان، بل تتصدى له، كما يلمح الناطق الرسمي الوزير مهند مبيضين.
ما يشير إليه المبيضين دقيق وصحيح، لكن الاعتقاد سياسياً راسخ الآن بأن الشارع الأردني بحث عبر تقنية «الإضراب» ليس فقط عن «توقه الشديد» لإظهار أكبر جملة تضامنية ضد العدوان ومع المقاومة، بقدر ما بحث عن تفعيل مقاربة وطنية أكثر جرأة في التصدي للسردية الإسرائيلية، وهي مهمة تتم بكفاءة برأي السياسي البارز الدكتور ممدوح العبادي، ومقاربة أكثر إقداماً على تطوير ميكانيزمات الأوراق الخشنة، لا بل الاستدارة السياسية الشاملة في الاتجاه المعاكس تماماً وعملياً لليمين الإسرائيلي وللمشاريع الأمريكية.
تلك طبعاً مهمة صعبة ومعقدة ويمكن لأي «مواطن» أن يقترحها بدون إظهار مرونة في «احتمال نتائجها» على أساس القناعة البيروقراطية الأمنية التراثية التي تقدر بأن «الشارع مثل الطفل لا يشبع»، لكن المهم جداً بل والاستثنائي بالمقابل، أن تقرأ الحكومة جيداً وبعمق ومعها دوائر صناعة القرار «ألغاز» مستوى الاستجابة النشطة والمباغتة، لا بل المفاجئة شعبياً لإضراب قررته «حلقات سوشال ميديا نشطة» خارج البلاد وتفاعل معه الأردنيون بنسبة ينبغي أن «تقلق أي حكومة».
تلك الاستجابة تقول الكثير في العمق السياسي وبكل بساطة؛ لأن «المواطن والقطاع الخاص» هما من قرر طوعاً بعيداً عن الحكومة والقطاع العام «خسارة بعض المال الضروري» وإهدار ساعات ملحة وأساسية مقابل تنميط فكرة الاحتجاج على العدوان ورموزه. ببساطة، في الاستجابة لإضراب الإثنين الغامض المفاجئ، قال المواطن الأردني ضمناً إنه «مستعد لخسارة وقته وماله» مقابل أن «تحيا غزة وتصمد». وقال أيضاً إن أي اقتراح غريب أو قريب يتضامن مع المقاومة تلتقطه مجسات الأردنيين شعبياً وفوراً، والأهم قال ضمناً إن «حسابات فلسطين» والعدو الاسرائيلي في عمق مكونات المجتمع أكبر بكثير مما تعتقده تلك النخب الليبرالية أو السياسية هنا وهناك.
استجابة الأردنيين لـ»إضراب الاثنين» مؤثرة وعميقة، وأهم ما فيها أن الرأي العام يمكنه المجازفة حتى بحالة «عصيان مدني» إذا لم يقف العدوان، وأن ما تقدمه الحكومة حتى الآن مقبول ومشكور، لكن ما يريده الشعب أكبر بكثير من معادلة «التصدي للرواية الإسرائيلية»، وبالنتيجة يمكنه الصبر والاحتمال وبالتأكيد بدون مجازفات كبرى.
في الخلاصة، أمام الحكومة خياران لا ثالث لهما، وهما:
أولاً، فهم ترميزات الاستجابة للإضراب بعمقها وقراءتها بدون تشنج، ولاحقاً احترام رسائلها بعد تفكيك رموزها.
ثانياً، البقاء في موقع الخصومة مع «استجابات شعبية» الآن وتدفيع الدولة وجميع الأطراف ثمنها وكلفتها مستقبلاً.
عملياً، ينبغي لدوائر القرار الرسمي «الاستثمار» في الحالة الشعبية بدلاً من الاجتهاد في قمعها أو ملاعبتها.
بسام البدارين
القدس العربي