الأدب… في الخط الأول من الحرب

{clean_title}
الشريط الإخباري :  
سعيد خطيبي
الأدب ليس ممارسة بريئة، بل تنجر عنه ممارسات خطيرة، قد تصل بالكاتب إلى إشعال حرب. وعلى الرغم من مآسي الحرب وتراجيديتها، دمارها ودمها، دموعها ومحنها، فهي كذلك حكاية. مع أنني مع الرأي القائل إن هنالك خطأ وقع في القواميس، فكلمة «حرب» لا يصح نطقها أو كتابتها في صياغة المفرد، لا توجد «حرب»، بل «حروب»، لأن كل حرب في صيغة المفردة تجرنا إلى «حروب». وذلك ما علمتنا إياه التجربة وكذلك كتب التاريخ.
منذ نشأة الأدب، منذ الملاحم الإغريقية (منذ الإلياذة والأوديسة لهوميروس)، إلى حد الساعة، ظلت الحرب واحدة من الموضوعات الأكثر إيثاراً في الأدب. هي الموضوع الذي يتفق عليه الكاتب والقارئ على حد سواء، وبما أن الحروب تتشابه، فلماذا نكتب عنها كل مرة؟ الجواب: لأن هناك دائماً تفصيلا يميز حروباً عن أخرى، وهنا وظيفة الأدب في كشف الفروقات بين الحروب. الأدب لا يؤرخ للحروب، بل للاختلافات في ما بينها. على عكس المؤرخ، الذي يجمع فتات التاريخ، فإن الكاتب، يختلق تاريخاً آخر، يحيلنا إلى المخيلة، إلى الوجوه غير المرئية من الحروب.
كل حرب تبدأ بنص أدبي. تبدأ من الأدب. هناك أشكال من الحروب: حرب من أجل الوصول إلى موارد طبيعية، حرب من أجل الهيمنة على أرض كحال الحروب الكولونيالية، حرب أهلية أو حرب تحريرية، لكن في منطق العسكريين، لا يبررون الحرب بما ينوون عليه، لا يقولون الحقيقة لأن الحقيقة تجردهم من سمعتهم في أذهان الناس، بل يلجؤون إلى قاموس الأدب، فيقولون ـ مثلاً ـ إنها حرب من أجل الوطن، من أجل الشرف، من أجل القيم والمبادئ، إلى غيرها من الأدبيات الأخرى، وقصد إقناع الناس عكس ما يُفكرون فيه، يستنجد العسكريون بكتاب وشعراء من أجل ديباجة خطابات أدبية تبرر الموت والقتل والرصاص والدم. إذن يصير الكاتب أو الشاعر الجندي الأول في كل حرب، هو الذي يبرر الدمار قبل أن يصير هو نفسه ضحية.
تحضر في السياق حرب وقعت قبل مدة ليست بعيدة، قبل ثلاثين سنة فقط، وهي حرب البوسنة والهرسك. هل يعقل أن الشعر كان نواة تلك الحرب؟ قد يبدو الأمر غير منطقي، فما هي إذن أسباب تلك الحرب؟ في الغالب هناك فرضيات عامة: انهيار جمهورية يوغسلافيا وتفككها، تداعيات سقوط جدار برلين ونهاية المعسكر الشرقي، أو سبب آخر ديني بين مسلمين بوسنيين وصرب أرثوذوكس. هذه أطروحات عامة لا تفسر تلك الحرب تماماً. إن المخيلة الأدبية هي التي أشعلت حرب البوسنة والهرسك. صنعها الأدب قبل أن يصنعها النار والبارود. فقائد جيش صرب البوسنة لم يكن سوى أشهر شعراء البلد: رادوفان كارجيتش (1945)، ونائبه شاعر آخر: نيكولا كوليفيتش (1936-1997). إن الشعراء الذين نعتقد أنهم أكثر الناس قرباً إلى الحياة وشغفاً بها، سيصيرون في لحظة تاريخية أكثر البشر دموية.
في الحقبة نفسها التي دارت فيها حرب البوسنة والهرسك، وقعت واحدة من أشنع المجازر في افريقيا، تصفية عرقية في رواندا. في غضون ثلاثة أشهر جرى قتل ما يقارب المليون شخص من التوتسي. كيف حصل ذلك؟ عاماً قبل المجازر أنشئت محطة إذاعية اسمها (إذاعة الألف ربوة)، هذه الإذاعة سوف يكون لها دور دموي في تغذية الحقد على التوتسي، وقد روجت لأكاذيبها بالاستعانة بأناشيد وقصائد وأغان تحريضية. مرة أخرى لعب كتاب دوراً في توسيع دائرة الدمار.

في المسافة بين الحدث التاريخي والمخيال الأدبي، هنالك شرط آخر يتعلق بتحييد العاطفة. في كل حادث مأساوي، نصادف بعض من يقول: أتعاطف! وهي كلمة طارئة. نتعاطف مع ماذا؟ وما هي المنفعة من التعاطف؟ في رأيي هذه الكلمة غير صائبة، تستخدم بالخطأ في العربية فقط.

إن الانتقال من الحدث التاريخي إلى لحظة الكتابة عنه، هو انتقال سوسيولوجي قبل ان يكون أدبياً. الحرب تضع الكاتب في مواجهة العنف، تجعله يفكر أيضاً في خلاصه الفردي، ولن يكتب ما دام لم يصل ذلك الخلاص، لكن هناك طرحين: هل نكتب في لحظة الحرب؟ أم ننتظر نهايتها ثم نكتب؟ في لحظة الدمار هناك كتابة حميمة، في وصف اللحظة، في القبض على جمرة الموت، في ترقب الموت في حد ذاته، هناك كذلك كتابة تراسلية، أن يكتب أحدهم رسائل من قلب الحرب، وهناك شكل آخر من الكتابة عقب نهاية الحرب، في قصائد أو روايات. مع أن هناك روايات مهمة كتبت بينما الحرب لم تنته بعد. نذكر منها رواية «الأمل» للكاتب الفرنسي أندري مالرو، الذي كان كذلك مقاتلاً في خضم الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن الماضي. إن المخيال الأدبي في الكتابة عن الدمار ينطلق من إدانة له. كل نص أدبي عن حرب يبدأ وينتهي من إدانة لها. في إدانة الموت المجاني، ليس بالاصطفاف إلى طرف ضد الآخر قصد سكب البنزين في النار. كما إن سردية الدمار هي كذلك سردية سياسية. فالحرب لها خلفية سياسية بطبيعة الحال. ولكن في العالم العربي تعودنا ـ على خلاف كل آداب العالم الأخرى ـ عن سوء تعامل مع نص سياسي، عن توجس وحذر غير مبرر إزاءه. كما لو أن السياسة وحش ويجب أن لا تطأ أرض الأدب. مع أن الكتابة في حد ذاتها فعل سياسي. مجرد حمل قلم والكتابة فنحن نمارس عملاً سياسياً. في رأيي يجب أن لا نُحاكم نصاً انطلاقاً من موقفه السياسي، بل يجب أن نحافظ على نقد فني له، على مسافة حياد، والسياسة مهما حاولنا عزلها فهي جزء من المغامرة الأدبية.
في المسافة بين الحدث التاريخي والمخيال الأدبي، هنالك شرط آخر يتعلق بتحييد العاطفة. في كل حادث مأساوي، نصادف بعض من يقول: أتعاطف! وهي كلمة طارئة. نتعاطف مع ماذا؟ وما هي المنفعة من التعاطف؟ في رأيي هذه الكلمة غير صائبة، تستخدم بالخطأ في العربية فقط. في لغات أخرى نقول الكلمة الأصح: نتضامن. التضامن يحتمل دعماً مادياً أو معنوياً للضحية، مهما كانت. لكن العاطفة ليس لها محل في هذه اللحظة المأساوية. كما إن العاطفة هي جحيم الكتابة. من يكتب عن لحظة تاريخية، عن لحظة دمار من منطلق العاطفة، من منطلق التفرقة والتمييز بين الضحايا، فلا فرق بينه وبين الجلاد. لأن الحرب مهما كانت ـ كما أسلفنا ـ تفترض طرفين، وكلا الطرفين يتحمل مسؤوليته التاريخية. الكتابة عن حرب تفترض إدانة كل من صنعها، لأن لحظة الدمار لا تحتمل لا عاطفة ولا أخلاقا، بل هي لحظة عمى، لحظة جنون، إذن فإن الكتابة من منطق العاطفة هي كتابة تعيد إحياء المأساة، في حين أن دور الأدب هو وقف المأساة، هو أن يبحث عن المشترك الإنساني، لا ما يفرق بين البشر.
© جميع الحقوق محفوظة لوكالة الشريط الإخبارية 2024
تصميم و تطوير
Update cookies preferences