امل خضر تكتب ما بعد ٢٠١٩
لا شكَّ أنَّ التغيرات التي شهدهُا العالمُ منذُ 2019 غيَّرَ الكثير من ملامحَ الحياةِ، وطوَّرهَا في كافة مجالات الحياة علميا وتقنيا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وعلى جميعِ الأصعدةِ بصورةٍ لم يكنْ لأحدٍ أنْ يتخيَّلهَا ما قبلَ أزمةِ كورونَا، والتِي أحدثتْ تسارعًا رهيبًا في عجلةِ الحياةِ.
هذَا التَّغير المتسارع أجبرَ الجميعَ علَى مواكبةِ هذَا التطوُّرِ لاستيعابِ الوجهِ الآخرِ لهذَا العالمِ، ولم يكنْ ليحدثَ ذلكَ لولَا وجودُ اصحاب فكرٍ استوعبَوا هذَا التحوُّلَ فكانَ كمَا نراهُ اليومَ يسابقُ الزَّمنَ فِي كلِّ مَا هُو جديد.
تكمنُ المشكلةُ الحقيقيَّةُ معَ هذَا التغير فِي فشلِ البعضِ فِي تجاوزِ المرحلةِ السابقةِ أي -مَا قبلَ الجائحةِ- فِي إدارةِ العملِ بشكلٍ عامٍّ بالاتِّكاءِ علَى خبراتِ وأساليبَ تقليديَّةٍ سابقةٍ مرا و عفَا عليهَا الزَّمنُ، وتسويقِ أعذار واهية ، بينمَا الحقيقةُ تكمنُ فِي عجزِها عَن استيعابِ الثورةِ العلميَّةِ والتقنيةِ التِي أجبرتِ العالمَ للانطلاقِ معهَا لخلقِ عالمٍ جديدٍ. وربما بإمكاننا أن نذهب إلى القول إن ذلك قد غير مفهومنا عن التفكير ذاته، أيا كان مجاله. فإذا نحن تحررنا من هذه العقلانية "التقليدية"، ولم نعد نقتصر على النظر إلى الفكر على أنه بحث عن البسائط لاتخاذها منطلقا لكل تفكير قويم، فاعتبرنا التفكير بالأساس، تراجعا وانعكاسا Réflexion ونقدا، فإنه سينحل دوما إلى عملية تأزيم، ويغدو الفكر نقدا وخلق أزمات critiquer, c'est mettre en crise، فلا تغدو الأزمات أمراضا تلحق الفكر، وإنما هزات تخلخله ولا تنفك تعيد بناءه.
لا يمكنُ أنْ نربطَ النجاحَ بوجودِ بيئةِ عملٍ مناسبةٍ، أو توفُّرِ أدواتٍ فقطْ بقدرِ حاجتِنَا لوجودِ فكرٍ مرنٍ لديهِ الشجاعةُ والطموحُ لتحقيقِ النجاحِ وقادرٌ علَى تخطِّي التحدِّيات بخلقِ البيئةِ الآمنةِ وتوفيرِ الأدواتِ المساندةِ.
نتحدَّثُ اليومَ فِي 2024، والغريبُ أنَّ هناكَ مَن يعيشُ علَى أطلالِ مَا قبل 2019 فِي التفكيرِ وإدارةِ العملِ، لذَا مَن أغلقَ نوافذَ عقلهِ لمْ يستطعْ استيعابَ المرحلةِ الجديدةِ، وحصرَ خبراتِهِ فِي الأساليبِ التقليديَّةِ، واستسلمَ للرتابةِ، وتوقَّفَ عندَ مرحلةٍ معيَّنةٍ، عندَ تصديرِ أوراقِ، وتأخُّر موظَّفٍ، وغيابِ آخرَ فقطْ، بعيدًا عَن الإبداعِ وزيادةِ الإنتاجيَّةِ، متجاهلًا أبعادَ التطوُّرِ الذِي نعيشهُ، والذِي هُو بأمسِّ الحاجةِ إلى تجديدِ الفكرِ برؤيةٍ أعمقَ وأكثرَ حداثةً وأكبرَ طموحًا.. أن كل أمة تريد أن تبنى لنفسها حياة جديدة، أو تتهيأ لتبدأ مرحلة جديدة من هذه الحياة، تستمد – بادئ ذي بدء- مقومات البناء والاستمرار مما يكمن في ضميرها الوطني ووجدانها الفكري، والاستفادة من العناصر الايجابية الكامنة فيهما لإرساء قواعد هذا البناء واستمراره وتعبئتهما لتهييىء حياة جديدة، خصبة، نامية، حتى تضمن لنفسها البقاء والوجود، وأخطر التحديات في اعتقادي التي تجابه أمة في مثل هذه المرحلة الجديدة الدقيقة في حياتها هو خطر الازدواجية في التفكير، واختلاف واصطناع أزمات مفتعلة في الفكر الوطني والقومي، ومحاولة تمييع مصادر الفكر الوطني الأصيل وتفتيته حتى تتفسخ شخصية الأمة، ومحاولة عزل هذا الفكر الوطني الأصيل وأبعاده عن الحياة اليومية مفرد، حتى يتلاشى التفاعل الايجابي بين الفرد وفكره، وخطر افتعال أزمة فكرية في الحياة الثقافية والأدبية، وهو خطر لا يهدد فحسب شخصية الفرد ولكنه يهدد كذلك شخصية الأمة المتطلعة المترتبة، ولا يستهدف وجدان وضمير الفرد ولكنه يستهدف ضمير ووجدان الأمة بأكملها، لأن الفكر مثل الغذاء المشاع بين الناس ولهم يجب أن يراقب شأنه شأن الأفكار تماماً، وكما يعزل الغذاء الفاسد والخبيث من حياة الفرد والأمة حتى لا ينشر السموم، كذلك ينبغي عزل الفكر الفاسد و الخبيث من حياة الفرد والأمة، حتى لا ينتشر فساده وخبثه، فتنهار شخصية الأمة وتتحلل كما يتحلل الطين في الماء على حد تعبير ابن سينا !
هناكَ العديدُ من التجاربِ التي فشلتْ وتوقَّفتْ بهَا ساعةُ الزَّمنِ، وأضاعتِ البوصلةَ، وفِي المقابلِ مِن حولنَا الكثيرُ مِن صورِ النجاحِ التِي تحفِّزكَ لعملٍ أكثرَ وتفتحُ أمامكَ آفاقًا أوسعَ.
الفكرُ هُو الذِي يصنعُ النَّجاحَ، وهُو الذِي يضعُ القواعدَ ويحرِّكهَا حسبَ طموحاتِهِ وأهدافِهِ.