نبوءة بابليّة
ما الذي بقي لهذا الجذع الميّتِ؟ ما الذي يمنعه بهذه القوّة من أن يموت؟ وقفتُ مرّة عند شُجيْرتين متجاورتيْن، واحدة خضراء تحمل أزهارا ملوّنة، وأخرى صفراءُ ويابسةٌ تماما، لكنّ كِساء الموت لم يصبها بأيّ انحدار جماليّ حادّ وواضح، فهي تتنافس مع الأولى في البهاء، بل تتفوّق عليها بهدوئها الرّوحيّ العميق، وبقيتُ حائرا في حقيقة أمري إلى أيّ الشُّجيْرتين أميل، وكلاهما مغمورتان بالهواء وتغريد الطيور والشّمس!
في لسان العرب نقرأ في معنى «الطّلل»: هو ما بقي شاخصا من آثار الدّيار، و«الرَّسْم» ما كان ملتصقا بالأرض، وبعد ذلك يتحلّل الرّسم ويذوب ويختفي من الوجود. يفسّر القاموس الأمر بهذه الصّورة: طلَل الدّار هو موضع مرتفع في صحنها يُهيّأ لمجلس أهلها. في الماضي كان هناك في فناء كلّ بيت بناء يشبه الدّكّانة يوضع عليه المأكل والمشرب يسمّى طلّ الدّار، أو طلل الدّار، ويكون الأمتن بناء فيها. طلَل المدينة هو ما ارتفع منها من عِمْران، وهو آخر موضع تدرسه الأنواء وصروف الزّمان، فهو يُضارع الرّأس لدى الإنسان، لأنّ هيكله يفْنى ويتبدّد في الأخير من البدن، وعندما تتعرّض المدينة إلى غزْو خارجيّ، فإن آخر ما يندرس منها ويذوب ويختفي هو اسمها في ذاكرة ناسها، والاسم يعني كلّ شيء.
انتصر الملك الآشوريّ أسرحدون على أعدائه في الشّمال، وضمّ جبال أرمينيا إلى مملكته، حتى بحر قزوين. ثمّ سار غربا ووصل البحر الأبيض المتوسّط، واستولى على صُورَ ومصرَ، وتُظهره مسلّة معروضة في متحف برلين بهيئة عملاق يركع أمامه ملكا النّوبة وصُور طالبيْن منه الرّحمة، مشدودَيْن إلى يده بحبل من منخريهما. كان الملك الآشوريّ، وكأنّ به مسٌّ من روح شرّيرة، يرفع هذا الشّعار أثناء زحف جيشه الغازي: «أمامي مدينةٌ وخلفي خراب». ولنا أن نتخيّل الأرواح التي تُرفرف فوق رماد المدينة المنكوبة، تدفّئها شمس مخضّبة بالدّم، تمسح أكوام الرّكام والحطام والوحدة الثّقيلة.
هناك نبوءة بابليّة يذكرها الملك الآشوريّ إيلو – شوما، الذي يأتي تسلسله عدد 32 في قائمة ملوك آشور. تقول النّبوءة: «كلّما تعالتْ مدينة إلى عنان السّماء مثل جبل، عادتْ كومةَ خراب». سقطت الامبراطوريّة الآشوريّة أوّل مرّة على أيدي الميديين، ثم قام السّاسانيّون بغزوها، وجاء المغول أخيرا بقيادة «تيمورلنك» الذي هدم مدنها واقترف مجازرَ فيها، وكم هو سهلٌ أن تخور الأقدامُ عندما تُريد الآلهةُ لها ذلك – العبارة لجورج سيفيريس- وتفاصيلُ المعارك تَحفظها لنا كتبُ التّاريخ.
عندما زار الكاهن بنيامين التطيلي نينوى، عاصمة مملكة آشور الكبرى، كتب هذا الوصف: «مدينة عامرة مترامية، وكلّ شيء فيها ساطع ومكتمل ولا تشوبه شائبة. وبالإمكان حساب اتّساعها اعتمادا على سورها الممتدّ على طول أربعين فرسخا (200 كلم)». أخذتِ الكاهن دهشة الإعجاب من معالم القصور الضّخمة في المدينة، ومسرح الاحتفالات وقمرات المراسم التي تحيط بها المُنْتَزَهات من كلّ جانب. بعد عشر سنوات بلغ كاهن آخر يُدعى بتاحيا الرّاتسبوني العاصمة الآشوريّة، وكان وصفه لها مروّعا: «بلدة مهجورة ومتهدّمة مثل سَدوم، سوداء التّربة مثل القطران، ولا توجد فيها حياة لحيوان أو نبات». أين توارت المباني والحقول والضِّياع التي رآها سلفه منذ سنوات قليلة؟
لكنّ ما جرى في نينوى، هو تَكرار لما حدث ويحدث وسيحدث في أيّ مدينة أخرى. إننا نعيش حقّا في عالم متشابه لا نحتاج فيه إلى الانتقال من بلد إلى آخر لغرض السّياحة والفرجة أو الدّراسة والتّنظير وما إلى ذلك. كتب عالم الآثار ليونارد وولي في مذكّراته عند تنقيبه في خرائب «أور» هذه المذكّرة: «وأنا أسير في الأحياء السّكنيّة في المدينة الأثريّة، وبدعابة إنكليزيّة، رحتُ أطلق على الشّوارع والأزقّة التي شملتها أعمال التّنقيب أسماء طرق مدينة أوكسفورد». كيف كان يمكن أن يحدث ذلك؟ بلدة تعيش في الماضي القديم في جنوب وادي الرّافدين، يراها عالم الآثار البريطاني تتماهى مع مدينته. لم يكن في الأمر دعابة في رأيي، وإنّما رغبة دفينة لدى الآثاري لرؤية المكان على أنّه مدينة أوكسفورد، فهو يُريد أن يثبت لنفسه أن عالمنا الحقيقي عبارة عن مدينة واحدة قام بصنعها التاريخ البشريّ. تختلف صروف الزمان ويتغيّر المكان، لكنّ الأحداث تجري على المنوال نفسِه، كأنّ آلة نسخ عملاقة أعادت سَكّ المدينة ذاتها في مختلف جهات المعمورة. الزمان هو الزمان في كلّ زمان، والمكان هو المكان أيضا، والشّمس تُشرق ثم تَغرُب، ولا جديد تحتها.
من البلدان التي نُكبت في العصر الحديث وقُتل شعبها وشُرّد: أرمينيا، يحدّثنا عنها الشّاعر والرّوائي وليم سارُويان، رغم أنّه ولد وعاش في ولاية كاليفورنيا، لكنّه كان يحمل بلده في رأسه في كلّ ما يكتب، ولديه قصيدة عن شعبه أنقلها لكم كاملة:
«أودّ أن أرى أيّ قوة في هذا العالم/ تدمّر هذا الجنس/هذه القبيلة الصّغيرة من أناس غير مهمّين» قبيلة انتهى تاريخها/ وشُنّت حروبها، وخُسرت، وانهارت مؤسساتها/ ولم يعد أدبها يُقرأ، ولا موسيقاها تُسمع، وحتى صلواتها لم تعد تستجاب/ امْضُوا قُدماً ودمّروا هذا الجنس، دعونا نقول إنها 1915 أخرى/ هناك حرب في العالم، دمّروا أرمينيا! انظروا إن كنتم تستطيعون فعل ذلك/ أخرجوهم من بيوتهم إلى الصحارى، اتركوهم دون خبز ودون ماء، أحرقوا منازلهم وكنائسهم/ وانظروا إن كانوا لن يعيشوا مرّة أخرى/ انظروا إن كانوا لن يضحكوا مرة أخرى، انظروا إن كنتم تستطيعون منعهم من التّهكّم من أفكار العالم الكبيرة!/ امضوا قُدما، وحاولوا أن تقضوا عليهم/ لكن، حيثما يلتقي اثنان منهم، في هذا العالم/ انظروا، إن لم يعيدوا خلق أرمينيا جديدة!»
اثنان يكفيان لإعادة بناء البلاد التي احتلّها المستعمر، وقتل شعبها واستباح ديارها، بل إن امرأً واحدا في مقدوره إعادة ذكرى بلاد، وقصّة النّبيّ الشّكور نوح بعد الطّوفان شهيرة.
تقول الأسطورة إنّ الكائن البشريَّ خُلقَ واحدا في البداية ثم عاقبه الرّبّ بشطره إلى نصفين يحنّ أحدهما إلى الآخر ويبحث عنه ولا ييأس. الواحد يصير اثنين، وهذان سوف يبنيان جيشا في المستقبل، حتما، يتقاتل مع جيش العدوّ، واحتمال النّصر مساوٍ للخسارة. الفضيلة الأصعب تحقيقا، والأكثر نُدرة في الوقت نفسه، هي الوفاء، ويكون التّعبير عنها بالانتماء الشديد إلى الوطن الأمّ. إن جميع الأوطان وطن واحد، وكذلك الشّعوب المتعدّدة، فهم من سلالة واحدة وجاؤوا من أمّنا جميعا، لكنّ لعبة الحظّ لا تكفّ عن الدّوران، ترفع هذا وتخفض من تشاء أن تصيبه باللّعنة والسّوء.
يقف «أولاي» بجوار سرير زوجته «مارتا» في رواية «صباح ومساء» لصاحب نوبل في العام الماضي النّرويجي يون فوسه، وكان الزوج يتطلّع إلى زوجته، والمولود الجديد، ابنه، يرقد على ثديها. يفكّر الزّوج في أن يقول شيئا، فهو لا يمكن أن يظلّ واقفا هكذا متلعثما دون أن يتفوّه بكلمة. تفتح «مارتا» عينيها وتنظر إلى زوجها، لكنه يتعذّر عليه فهم معنى نظرتها، تبدو كأنها تتطلّع إليه من مكان سحيق، وتعرفُ شيئا لا يعرفه هو. إنه لم يفهم النساء قَطُّ، وعندما يفكّر في الأمر يجد أنّهنّ يعرفنَ شيئا انغلق عليه فهمُه، شيئا لن يفصحن به لأحد أبدا، وهو على يقين من أنّهنّ لا يقدرنَ أن يفصحنَ عنه لأنّه لا يُقال. يضعُ الرّوائي النّرويجي يده على الحقيقة السّامية في الوجود، والتي لا يمكن التعبير عنها بكلمات، ولا بواسطة الأفعال. كأن النّساء حين يلدْننا، يصنعْن لنا أوطاننا. السّر الذي كشفهُ «يوسه»، تمتلكه المرأةُ بالغريزة والجدارة، ويأتي رجال الحرب ويشطبون على هذا الفعل الأجلّ.
أنظُرُ إلى الحرب الدّائرة الآن، وأشعر أن أهل لبنان وفلسطين أهلي، وجنود العدوّ القتلى والأسرى أيضا، وقد صاروا بلا حول ولا قوّة، كأنهم إخوتي وأبنائي، ولدتهم أمّ تشبه أمّي لأنها تملك السّرّ الأسمى، وجاء الرّجل الشّرّير، وداس على ما في القلب من كلام مقدّس. يأخذ هذا المعتوه في كلّ عهد اسما، هتلر أو صدام حسين أو نتنياهو…
تؤدّي خسارة الحرب إلى أن كلّ شيء يتحوّل إلى لا شيء، ويؤدي ربحها إلى انتقام مقابل يقوم به الطّرف الخاسر عندما تدور عجلة الحظّ لصالحه، وسوف ينفّذ ثأره عندها بأناقة ما بعدها أناقة. ما تقوله النّبوءة البابليّة لا شيء غير ما ندعوه عندنا بغدر الزمان. هل يُكتب أن يتحقّق هذا الوعيد في مدن تبدو الآن عصيّة على الخراب، مثل واشنطن وتلّ أبيب؟ حتّى لو لم يُنجز الوعد في هذا العهد، أو في العصر الذي يليه، أو الأبعد. حتّى لو أنّه لن يتحقّق أبد الدّهر، تبقى النبوءة البابليّة صادقة وصائبة وتامّة.
نبوءة بابليّة
ما الذي بقي لهذا الجذع الميّتِ؟ ما الذي يمنعه بهذه القوّة من أن يموت؟ وقفتُ مرّة عند شُجيْرتين متجاورتيْن، واحدة خضراء تحمل أزهارا ملوّنة، وأخرى صفراءُ ويابسةٌ تماما، لكنّ كِساء الموت لم يصبها بأيّ انحدار جماليّ حادّ وواضح، فهي تتنافس مع الأولى في البهاء، بل تتفوّق عليها بهدوئها الرّوحيّ العميق، وبقيتُ حائرا في حقيقة أمري إلى أيّ الشُّجيْرتين أميل، وكلاهما مغمورتان بالهواء وتغريد الطيور والشّمس!
في لسان العرب نقرأ في معنى «الطّلل»: هو ما بقي شاخصا من آثار الدّيار، و«الرَّسْم» ما كان ملتصقا بالأرض، وبعد ذلك يتحلّل الرّسم ويذوب ويختفي من الوجود. يفسّر القاموس الأمر بهذه الصّورة: طلَل الدّار هو موضع مرتفع في صحنها يُهيّأ لمجلس أهلها. في الماضي كان هناك في فناء كلّ بيت بناء يشبه الدّكّانة يوضع عليه المأكل والمشرب يسمّى طلّ الدّار، أو طلل الدّار، ويكون الأمتن بناء فيها. طلَل المدينة هو ما ارتفع منها من عِمْران، وهو آخر موضع تدرسه الأنواء وصروف الزّمان، فهو يُضارع الرّأس لدى الإنسان، لأنّ هيكله يفْنى ويتبدّد في الأخير من البدن، وعندما تتعرّض المدينة إلى غزْو خارجيّ، فإن آخر ما يندرس منها ويذوب ويختفي هو اسمها في ذاكرة ناسها، والاسم يعني كلّ شيء.
انتصر الملك الآشوريّ أسرحدون على أعدائه في الشّمال، وضمّ جبال أرمينيا إلى مملكته، حتى بحر قزوين. ثمّ سار غربا ووصل البحر الأبيض المتوسّط، واستولى على صُورَ ومصرَ، وتُظهره مسلّة معروضة في متحف برلين بهيئة عملاق يركع أمامه ملكا النّوبة وصُور طالبيْن منه الرّحمة، مشدودَيْن إلى يده بحبل من منخريهما. كان الملك الآشوريّ، وكأنّ به مسٌّ من روح شرّيرة، يرفع هذا الشّعار أثناء زحف جيشه الغازي: «أمامي مدينةٌ وخلفي خراب». ولنا أن نتخيّل الأرواح التي تُرفرف فوق رماد المدينة المنكوبة، تدفّئها شمس مخضّبة بالدّم، تمسح أكوام الرّكام والحطام والوحدة الثّقيلة.
هناك نبوءة بابليّة يذكرها الملك الآشوريّ إيلو – شوما، الذي يأتي تسلسله عدد 32 في قائمة ملوك آشور. تقول النّبوءة: «كلّما تعالتْ مدينة إلى عنان السّماء مثل جبل، عادتْ كومةَ خراب». سقطت الامبراطوريّة الآشوريّة أوّل مرّة على أيدي الميديين، ثم قام السّاسانيّون بغزوها، وجاء المغول أخيرا بقيادة «تيمورلنك» الذي هدم مدنها واقترف مجازرَ فيها، وكم هو سهلٌ أن تخور الأقدامُ عندما تُريد الآلهةُ لها ذلك – العبارة لجورج سيفيريس- وتفاصيلُ المعارك تَحفظها لنا كتبُ التّاريخ.
عندما زار الكاهن بنيامين التطيلي نينوى، عاصمة مملكة آشور الكبرى، كتب هذا الوصف: «مدينة عامرة مترامية، وكلّ شيء فيها ساطع ومكتمل ولا تشوبه شائبة. وبالإمكان حساب اتّساعها اعتمادا على سورها الممتدّ على طول أربعين فرسخا (200 كلم)». أخذتِ الكاهن دهشة الإعجاب من معالم القصور الضّخمة في المدينة، ومسرح الاحتفالات وقمرات المراسم التي تحيط بها المُنْتَزَهات من كلّ جانب. بعد عشر سنوات بلغ كاهن آخر يُدعى بتاحيا الرّاتسبوني العاصمة الآشوريّة، وكان وصفه لها مروّعا: «بلدة مهجورة ومتهدّمة مثل سَدوم، سوداء التّربة مثل القطران، ولا توجد فيها حياة لحيوان أو نبات». أين توارت المباني والحقول والضِّياع التي رآها سلفه منذ سنوات قليلة؟
لكنّ ما جرى في نينوى، هو تَكرار لما حدث ويحدث وسيحدث في أيّ مدينة أخرى. إننا نعيش حقّا في عالم متشابه لا نحتاج فيه إلى الانتقال من بلد إلى آخر لغرض السّياحة والفرجة أو الدّراسة والتّنظير وما إلى ذلك. كتب عالم الآثار ليونارد وولي في مذكّراته عند تنقيبه في خرائب «أور» هذه المذكّرة: «وأنا أسير في الأحياء السّكنيّة في المدينة الأثريّة، وبدعابة إنكليزيّة، رحتُ أطلق على الشّوارع والأزقّة التي شملتها أعمال التّنقيب أسماء طرق مدينة أوكسفورد». كيف كان يمكن أن يحدث ذلك؟ بلدة تعيش في الماضي القديم في جنوب وادي الرّافدين، يراها عالم الآثار البريطاني تتماهى مع مدينته. لم يكن في الأمر دعابة في رأيي، وإنّما رغبة دفينة لدى الآثاري لرؤية المكان على أنّه مدينة أوكسفورد، فهو يُريد أن يثبت لنفسه أن عالمنا الحقيقي عبارة عن مدينة واحدة قام بصنعها التاريخ البشريّ. تختلف صروف الزمان ويتغيّر المكان، لكنّ الأحداث تجري على المنوال نفسِه، كأنّ آلة نسخ عملاقة أعادت سَكّ المدينة ذاتها في مختلف جهات المعمورة. الزمان هو الزمان في كلّ زمان، والمكان هو المكان أيضا، والشّمس تُشرق ثم تَغرُب، ولا جديد تحتها.
من البلدان التي نُكبت في العصر الحديث وقُتل شعبها وشُرّد: أرمينيا، يحدّثنا عنها الشّاعر والرّوائي وليم سارُويان، رغم أنّه ولد وعاش في ولاية كاليفورنيا، لكنّه كان يحمل بلده في رأسه في كلّ ما يكتب، ولديه قصيدة عن شعبه أنقلها لكم كاملة:
«أودّ أن أرى أيّ قوة في هذا العالم/ تدمّر هذا الجنس/هذه القبيلة الصّغيرة من أناس غير مهمّين» قبيلة انتهى تاريخها/ وشُنّت حروبها، وخُسرت، وانهارت مؤسساتها/ ولم يعد أدبها يُقرأ، ولا موسيقاها تُسمع، وحتى صلواتها لم تعد تستجاب/ امْضُوا قُدماً ودمّروا هذا الجنس، دعونا نقول إنها 1915 أخرى/ هناك حرب في العالم، دمّروا أرمينيا! انظروا إن كنتم تستطيعون فعل ذلك/ أخرجوهم من بيوتهم إلى الصحارى، اتركوهم دون خبز ودون ماء، أحرقوا منازلهم وكنائسهم/ وانظروا إن كانوا لن يعيشوا مرّة أخرى/ انظروا إن كانوا لن يضحكوا مرة أخرى، انظروا إن كنتم تستطيعون منعهم من التّهكّم من أفكار العالم الكبيرة!/ امضوا قُدما، وحاولوا أن تقضوا عليهم/ لكن، حيثما يلتقي اثنان منهم، في هذا العالم/ انظروا، إن لم يعيدوا خلق أرمينيا جديدة!»
اثنان يكفيان لإعادة بناء البلاد التي احتلّها المستعمر، وقتل شعبها واستباح ديارها، بل إن امرأً واحدا في مقدوره إعادة ذكرى بلاد، وقصّة النّبيّ الشّكور نوح بعد الطّوفان شهيرة.
تقول الأسطورة إنّ الكائن البشريَّ خُلقَ واحدا في البداية ثم عاقبه الرّبّ بشطره إلى نصفين يحنّ أحدهما إلى الآخر ويبحث عنه ولا ييأس. الواحد يصير اثنين، وهذان سوف يبنيان جيشا في المستقبل، حتما، يتقاتل مع جيش العدوّ، واحتمال النّصر مساوٍ للخسارة. الفضيلة الأصعب تحقيقا، والأكثر نُدرة في الوقت نفسه، هي الوفاء، ويكون التّعبير عنها بالانتماء الشديد إلى الوطن الأمّ. إن جميع الأوطان وطن واحد، وكذلك الشّعوب المتعدّدة، فهم من سلالة واحدة وجاؤوا من أمّنا جميعا، لكنّ لعبة الحظّ لا تكفّ عن الدّوران، ترفع هذا وتخفض من تشاء أن تصيبه باللّعنة والسّوء.
يقف «أولاي» بجوار سرير زوجته «مارتا» في رواية «صباح ومساء» لصاحب نوبل في العام الماضي النّرويجي يون فوسه، وكان الزوج يتطلّع إلى زوجته، والمولود الجديد، ابنه، يرقد على ثديها. يفكّر الزّوج في أن يقول شيئا، فهو لا يمكن أن يظلّ واقفا هكذا متلعثما دون أن يتفوّه بكلمة. تفتح «مارتا» عينيها وتنظر إلى زوجها، لكنه يتعذّر عليه فهم معنى نظرتها، تبدو كأنها تتطلّع إليه من مكان سحيق، وتعرفُ شيئا لا يعرفه هو. إنه لم يفهم النساء قَطُّ، وعندما يفكّر في الأمر يجد أنّهنّ يعرفنَ شيئا انغلق عليه فهمُه، شيئا لن يفصحن به لأحد أبدا، وهو على يقين من أنّهنّ لا يقدرنَ أن يفصحنَ عنه لأنّه لا يُقال. يضعُ الرّوائي النّرويجي يده على الحقيقة السّامية في الوجود، والتي لا يمكن التعبير عنها بكلمات، ولا بواسطة الأفعال. كأن النّساء حين يلدْننا، يصنعْن لنا أوطاننا. السّر الذي كشفهُ «يوسه»، تمتلكه المرأةُ بالغريزة والجدارة، ويأتي رجال الحرب ويشطبون على هذا الفعل الأجلّ.
أنظُرُ إلى الحرب الدّائرة الآن، وأشعر أن أهل لبنان وفلسطين أهلي، وجنود العدوّ القتلى والأسرى أيضا، وقد صاروا بلا حول ولا قوّة، كأنهم إخوتي وأبنائي، ولدتهم أمّ تشبه أمّي لأنها تملك السّرّ الأسمى، وجاء الرّجل الشّرّير، وداس على ما في القلب من كلام مقدّس. يأخذ هذا المعتوه في كلّ عهد اسما، هتلر أو صدام حسين أو نتنياهو…
تؤدّي خسارة الحرب إلى أن كلّ شيء يتحوّل إلى لا شيء، ويؤدي ربحها إلى انتقام مقابل يقوم به الطّرف الخاسر عندما تدور عجلة الحظّ لصالحه، وسوف ينفّذ ثأره عندها بأناقة ما بعدها أناقة. ما تقوله النّبوءة البابليّة لا شيء غير ما ندعوه عندنا بغدر الزمان. هل يُكتب أن يتحقّق هذا الوعيد في مدن تبدو الآن عصيّة على الخراب، مثل واشنطن وتلّ أبيب؟ حتّى لو لم يُنجز الوعد في هذا العهد، أو في العصر الذي يليه، أو الأبعد. حتّى لو أنّه لن يتحقّق أبد الدّهر، تبقى النبوءة البابليّة صادقة وصائبة وتامّة.
حيدر المحسن